مشاهير

أثر لا يمحى : عندما يغيب الجسد ويبقى الوجدان

بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
نائب رئيس قسم الأدب ✍🏻

“يا ليتهمْ أخذوا الذكرى إذِ ارتحلوا، زالوا وما زالَ في أعماقنا الأثَرُ.” بيت شعريٌّ يحمل في طيّاته بحراً من الحسرة والحكمة، صرخة تختزل تجربة إنسانية كونية: غياب الجسد واستمرار الوجود في الروح. إنه نداء موجع لروحٍ رحلت تاركةً فراغاً مادياً، لكنها حفرت في أعماق من بقي حياً أخاديدَ لا تمحى، أثراً يتنفس ويُشعُّ ويوجع. فهذه ليست مجرد كلمات عن فراق، بل هي تأمل عميق في طبيعة الوجود والذاكرة، وفي كيف يتحول الإنسان إلى أرضٍ خصبة تحتفظ ببذور من عبروا في حياته، لتنبت أزهاراً من حزنٍ وحنينٍ وحبٍّ لا يذبل.

تتعدد أشكال الرحيل : قد يكون فراقاً جسدياً نهائياً بالموت، أو ابتعاداً مكانياً بالهجرة أو السفر، أو انفصالاً عاطفياً أو اجتماعياً. لكن بيت الشعر هذا يتجاوز تفاصيل السبب ليصوِّر اللحظة الحاسمة: “إذ ارتحلوا”. تلك اللحظة الفاصلة بين الحضور والغياب، بين الكثافة والفراغ. الحسرة تكمن في الأمنية المستحيلة: “يا ليتهم أخذوا الذكرى”. كم تمنى الصاحب لو أن الرحيل يشمل كل شيء، حتى الذكرى! وكم تمنى كل من عانى لوعة الفراق أن تُنزع منه شوكة التذكر المؤلمة، كأن يُمسح من ذاكرته كل ما يربطه بمن رحل، ليعيش بسلام! لكن هذه الأمنية تنبع من وطأة الألم، فهي رغبة في الهروب من ثقل الأثر، لا إنكار لقيمته. إنه اعتراف ضمني بأن الذكرى هي مصدر الألم، لكنها أيضاً الوعاء الوحيد الذي يحتفظ بجوهر من رحلوا.

لكن الواقع أقسى وأعمق : “زالوا وما زال في أعماقنا الأثر”. ها هي المفارقة الصارخة: زوال الجسد، انتهاء الحضور المادي، اختفاء الصوت واللمسة والرؤية المباشرة. كل ما هو ملموس ومحسوس قد زال. لكن في المقابل، هناك استمرارية مدهشة، بل وأبدية: “الأثر”. هذا الأثر ليس شيئاً هامشياً؛ إنه مستقر في “الأعماق”. ليس على السطح حيث يُمسح، بل في اللبّ، في الصميم، حيث تتشكل الهُوية وتخزن المشاعر الجوهرية. إنه ليس مجرد ذكرى عابرة، بل هو طاقة حية، حضور غير مرئي لكنه فاعل ومؤثر.

فما هو هذا “الأثر” الذي يتحدى الموت والغياب؟ إنه الكون الذي خلقه الآخر داخلنا. هو صدى ضحكته التي ما زالت تدوي في أذننا في لحظات الصمت. هو نبرة حكمته أو عذوبة كلماته التي ترشدنا في متاهات الحياة، وكأنه ما زال يهمس في أذننا. هو عادة تلقيناها منه فأصبحت جزءاً من روتيننا اليومي، أو قيمة غرسها فينا فنعيش بها. هو ذلك الشعور بالأمان الذي كان حضوره يمنحنا إياه، والذي تحول إلى فراغ نحمله في أعماقنا. هو الحزن الذي يغمرنا فجأة عند رائحة عطره المفضل، أو الألم الذي يخترق القلب عند سماع أغنية كان يعشقها. هو الفرح الغامر الذي ينتابنا عند تحقيق نجاح نعلم أنه كان سيفرح به. الأثر هو كل هذا وأكثر: إنه التحول الداخلي الذي أحدثه وجودهم فينا، تحولٌ صار جزءاً لا يتجزأ من كياننا.

هذا البيت، إذن، ليس مجرد رثاء؛ إنه تصوير لقوة العلاقات الإنسانية على تجاوز حدود الزمان والمكان. إنه يشهد على أن الحبّ، والصداقة، والتأثير العميق، هي أشياء لا تفنى بفناء الجسد. إنها تنتقل إلى مملكة أخرى: مملكة الذاكرة والوجدان والروح. إنها تصبح وقوداً لحاضرنا ومعنى لماضينا. الألم الذي يولده هذا الأثر هو الثمن الذي ندفعه مقابل تلك الهبة النادرة: أن يكون شخص ما قد لمس أعماقنا بهذا الشكل. إنه ألم مقدس في جوهره، لأنه دليل على عمق الاتصال الذي كان.

لذا، عندما نقف أمام فراق، كبيراً كان أم صغيراً، ونردد “يا ليتهم أخذوا الذكرى”، فلنعلم أننا في حقيقة الأمر لا نتمنى محو الأثر كله. لأن محو الأثر يعني محو جزء منا، محو الدروس، محو الحبّ، محو التجارب التي شكلتنا. نتمنى فقط تخفيف وطأة الغياب، تخدير الألم الحاد الذي يجلبه التذكر في لحظات الضعف. لكن الأثر الباقي هو شهادة على أن الحياة كانت أغنى بوجودهم، وأننا أصبحنا أكثر إنسانية لأنهم عبروا في طريقنا وتركوا بصمتهم في رمال روحنا.

فالرحيل إذن ليس نهاية المطاف؛ إنه تحول في شكل الوجود. من يغادروننا جسدياً لا يختفون؛ بل يهاجرون إلى مساحة أكثر حميمية داخلنا. يصبحون صوت ضميرنا في لحظات التردد، وقوة عزيمتنا عند الشدائد، ودموع حنيننا في لحظات الصفاء، وابتسامتنا الغامضة عند تذكر لحظة جميلة. هم حاضرون في خياراتنا، في ردود أفعالنا، في نظرتنا للعالم. هم ليسوا مجرد ذكريات نسترجعها، بل قوى فاعلة تستمر في تشكيل مسار حياتنا من أعماق ذلك المكان المقدس حيث استقر “الأثر”. فهم، وإن زالوا عن أعيننا، ما زالوا ينبضون في صمتِ وجداننا، يُضيئون دروبَنا بنورٍ من ذهبِ غيابهم، ويُذكّروننا بأن أعظمَ الرحيل لا يُمحو، بل يتحوّل إلى جمرةِ حبٍّ أبديةٍ تدفئُ أعماقَ الوجود .

سنلتقى إن كان فى العمر بقيه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى