مشاهير

أيمن شاكر يكتب : جرح العهد : حين يتحول الوعد إلى خنجر ..

بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
نائب رئيس قسم الأدب ✍🏻

أتذكُرُ العهدَ الّذي لِي قُلتَهُ
الغدرُ بينَ قُلوبِنا لا يُقبَلُ ؟
ها أنتَ أهملتَ الفؤادَ وخُنتَهُ
للهِ ذنبُك! أمثلُ قلبِي يُهمَلُ ؟

هذه الكلمات ليست مجرد أبيات شعرية، بل هي صرخة إنسانية مدوية تُخرِجُ من أعماق الجرح ما لا تستطيع الدموع حمله. إنها محاكمةٌ مؤلمة لذاتين: واحدة تُمسك بذكريات العهد كشاهد اتهام، وأخرى تقف في قفص الخيانة عاجزة عن الدفاع. السؤال الأول :
” أتذكر العهد ؟ ” ليس استفهاماً عادياً، بل هو طعنة في خاصرة النسيان المتعمد، كأنه يقول: “كيف تجرؤ على نسيان ما كان ركيزة وجودنا؟”. والوعد المذكور ليس كأي وعد؛ إنه يمثل المطلق الأخلاقي في العلاقة :
” الغدر بين قلوبنا لا يُققبل “. هنا تكمن المأساة : فمن نصب نفسه قاضياً على الغدر، صار أول من ارتكبه .

البيتان يختزلان رحلة علاقة من الذروة إلى الحضيض. فالعبارة الأولى “لا يُقبل” توحي بقوة الحرمة، كأن الغدر جريمةٌ ضد قدسية الودّ. لكن المفارقة الكبرى تكمن في التحول من هذا المبدأ الراسخ إلى الفعل الواقعي: “أهملت الفؤاد وخنته ” .
الإهمال هنا أقسى من الجفاء، فهو موت بطيء باللامبالاة، والخيانة هي القتل السريع بالغدر. وهنا يبرز سؤال الدهشة الأليم: “لله ذنبك!” – استنكارٌ يختلط فيه الغضب بالحسرة، كصدمة اكتشاف أن من كنتَ تضع بين يديه قلبك كأغلى وديعَة، رماه في زوايا الإهمال. ثم يأتي الاستفهام المدمِّر: “أمثلُ قلبي يُهمل؟” إنه ليس سؤالاً ينتظر إجابة، بل هو اتهامٌ موجع للذات قبل الآخر: “هل كنتُ أهون عليك إلى هذا الحد ؟ هل استحق قلبي الذي وهبك إياه أن يُلقى في مزبلة النسيان ؟ .

هذا الألم ليس مجرد حزن عابر؛ إنه زلزال يُعيد تشكيل جغرافيا الروح. فخيانة العهد لا تكسر الثقة بالآخر فحسب، بل تهزّ الثقة بالذات وبالقدرة على الحكم على النفوس. يُصبح القلب المهمَل ساحة حرب بين شعورين: حنينٌ مرير لتلك اللحظة التي نُطِق فيها الوعد المقدس، واشمئزازٌ من خواء الحاضر الذي كشف زيفه. الذكرى هنا ليست ملاذاً، بل سجناً تُقارن فيه بين وهج الماضي وقبح الحاضر.
أتذكر ؟ كلمة تصير كالسكين ؛ لأنها تُذكِّر الخائن بجريمته، وتُذكِّر الجريح بسطوته القديمة حين كان يملك قلباً سليماً لم يُطعن بعد.

وهنا يكمن جوهر المأساة: فالمتحدث لا يندب ضياع الحب وحده، بل يندب موت الحقيقة التي آمن بها. الوعد كان عقداً أخلاقياً، والخيانة خرق لهذا العقد. حين يقول: “أهملت الفؤاد”، فهو لا يتحدث عن إهمال عاطفي فحسب، بل عن إهمال لجوهر إنسانيته. القلب المهمول رمزٌ للقيمة الإنسانية التي تم تدنيسها. السؤال “أمثل قلبي يُهمل؟” يحمل في طياته صرخة وجودية : “هل أنا بهذه البساطة قابل للإهمال ؟ هل حبي، إخلاصي، وجودي معك، كان شيئاً تافهاً يمكن التخلص منه؟”. إنه استفهام يمسّ الكرامة قبل المشاعر.

ولكن في هذا الدمار، هناك قوة خفية. فبكاء الجريح ليس علامة ضعف، بل شهادة على أن قلبه ما زال حياً، قادراً على النزف، قادراً على التعبير عن قدسية ما انتهك. صرخة “لله ذنبك!” هي إعادة لملكية الذنب إلى صاحبه، وتحرير للذات من عبء تحمُّل وزر لم تجنِه. فهي ترفض منطق الضحية الذي يُبرر للخائن جرمه، وتُعلن أن الخيانة كانت اختياراً حراً، وليست قدراً محتوماً.

فالأبيات، رغم مرارتها، هي نصب تذكاري لكرامة الجريح. إنها تُعلّمنا أن بعض الجروح لا تُندمل، لأنها شواهد على أننا كنا أحياءً بما يكفي لنحب، وواثقين بما يكفي لنصدق، وشجعاناً بما يكفي أن نُصدم. وربما تكون الخيانة هي الإثبات القاسي على أن الوعد كان حقيقياً في عين من نطق به أول مرة. فلو كان الوعد كذبة من البداية، لما أحدثت خيانته هذا الوجع الذي يُنطق الشعر. فالجرح بهذا العمق دليل على أن الحب كان بهذا العلو.

فدمع القلب المهمول ليس علامة هزيمة، بل هو حبر يكتب قصيدة الوفاء الأخيرة لعهدٍ مات، ولكنه يظل في ذاكرة الوجود بوصفه **شهادة أبدية على أن بعض القلوب تُخلق لتُحِبَّ مرةً واحدةً فقط، فإذا خانها من كانت تظنه السماء، تحوَّلت جراحها إلى نجومٍ تُنير ظلمة الليالي، وتُذكّر الكون بأنَّ العهدَ المكسورَ لا يموت، بل يتحول إلى أسطورةٍ تَحكي أنَّ أقدسَ الأشياء في هذا العالم قد تُداس بالأقدام، لكنَّ نورها يبقى – رغم كل شيء – شامخاً في أعماق السماء .

سنلتقى إن كان فى العمر بقيه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى