الخذلان لا يعني بالضرورة أن ترفضها أو تُهينها ، بل يكفي أن تُهملها فأمك هى حبل النجاة الذي لا ينقطع

بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
نائب رئيس قسم الأدب ✍🏻
في بحر الحياة العاصف ، حيث تغرق الأصوات في ضجيج الماديات ، وتتبخر الأحلام تحت شمس الواقع القاسية ، تظل أمك مرساة الوجود الوحيدة التي تُمسك بقلبك قبل جسدك من الانجراف إلى الأعماق . هي ليست مجرد كلمة تُنطق ، ولا مجرد صورة تُعلَّق على الجدران ، بل هي الصرخة الأولى التي دخلت بها العالم ، واليد التي لا تتعب عن الدفع بك إلى برّ الأمان حتى حين تظن أنك تستطيع الطيران وحدك .
فكيف تُخذلها ؟ وكيف تنسى أنها حملتك في صمتٍ تسعة أشهر ، وحملت همومك تسعة عقود ؟
الأمومة ليست دمعةً تُذرف في عيدٍ يُحتفل به مرةً واحدةً كل عام ، بل هي تضحيةٌ يومية لا تُقاس بمنطق ، ولا تُقارن بمعادلة ، هي تلك الليالي الطويلة التي تقضيها أمك مُحدقة في وجهك وأنت نائم ، تُناجي السماء أن تحميك من كل شر. هي تلك الأكاذيب التي تقولها لك : ” لا تقلق ، أنا لست جائعة “، بينما هي تَخبئ رغيف الخبز الأخير تحت وسادتك. هي تلك الشيبَة التي تسرَّبت إلى شعرها كلما ركضت خلف أحلامك ، ونسيت أن تلتفتَ لترى كم ترهقها خطواتك.
فهل يُعقل أن تختزل كل هذا التاريخ في زياراتٍ سريعةٍ بين مشاوير العمل ؟ أو في مكالماتٍ تلهث فيها كأنك تُسدِّد دينًا ؟
صديقي ..
الخذلان لا يعني بالضرورة أن ترفضها أو تُهينها ، بل يكفي أن تُهملها . أن تضعها في قائمة الانتظار بينما تُسابق الزمن لتحقيق ما يسمى “النجاح”. النجاح الحقيقي يبدأ من إرضائها ، لأنها الوحيدة التي ستبكي إن سقطت ، وتفرح إن وقفت ، حتى وإن كان العالم كله يُصفق لسقوطك .
لا تنتظر حتى تُخرِج لها هديةً فاخرةً من متجرٍ ما ، فـ أعظم هديةٍ لها هي أن تجعل عينها تَرَاك ، أن تلمس يدك وجهها قبل أن يَصِل إليه البرد ، أن تسمع صوتك يُناديها قبل أن تَغرق في صمت الشيخوخة .
البعض يبررون غيابهم بحجة “المستقبل” ، لكنهم ينسون أن الأمهات لا يعشنَ إلى الأبد . كم من شخصٍ بنى قصورًا في السماء ، ثم اكتشف أن أساساتها انهارت لأن أمه التي كانت حجر الزاوية رحلت دون أن يُكمِل لها جدارًا واحدًا .
المستقبل لا يُبنى بإهمال الحاضر ، والحب لا يُختزل في الذكريات . أقسى كلمة قد تسمعها في حياتك ليست ” لا أحبك “، بل ” لو كنتُ قدَّمت لها ولو جزءًا مما قدَّمته لي “.
أكتب إليك هذه الكلمات وأنا أتذكر يد أمي التي لمست وجهي للمرة الأخيرة ، يدًا كانت دافئةً كالشمس ، ثم تحولت فجأة إلى بردٍ لا يُذيبُه إلا الدعاء . أتذكر نظراتها التي كانت تبحث عني بين الحشود كلما تأخرتُ ، وكيف كنت أتململ من حرصها الزائد ، واليوم أتمنى لو أنني عانقتها ألف مرة قبل أن تفقد الذاكرة القدرة على تذكُّر اسمي.
رفيقى لا تكرر أخطاءنا …
لا تكن ذلك الشخص الذي يزور قبرها كل جمعةٍ حاملاً ورودًا باهظة ، بينما كانت تنتظر منه وردةً واحدةً في حياتها . الأم لا تحتاج منك المال ، ولا الخُطب البليغة ، بل تحتاج أن ترى في عينيك أنها ما زالت أمك ، وأن وجودك هو الترجمة الحية لكل دمعةٍ سكبتها ، وكل صلاةٍ ناجت بها ربها من أجلك.
صديقي .. قد تُخطئ في حق الجميع وتغفر لك ، لكن إياك أن تُخطئ في حقها . فحين تُغمض عينيك للمرة الأخيرة ، لن يكون هناك صوتٌ يدفع عنك سؤال الموت إلا صوت أمك التي ستظل حتى من تحت التراب تُنادي لك بالرحمة .
احفظها في قلبك كما حفظتك في أحشائها ، واركض نحوها كما ركضت هي نحو ألم المخاض لتُخرجك إلى النور . لأنك بكل بساطة ، أنت آخر أملٍ لها … فلا تجعل هذا الأمل ينطفئ .
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه