الرحمة ليست ضعفًا ، بل هي قوةٌ جبارة تُسقط جبال الأنانية ، وتُحيي القلوب الميته ..
الرحمه صفه الخالق

بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
نائب رئيس قسم الأدب ✍🏻
في عالم يزداد انقسامًا كل يوم ، حيث تتصارع الأصوات وتتشابك المصالح ، تبقى الرحمة هي الجوهرة النادرة التي لا تُقدر بثمن ، ولا تُقاس بمعايير المادة . إنها ليست سلعةً تُعرض في الأسواق ، أو بندًا في قوانين تفرضها الحكومات ، بل هي نبضٌ خفيٌّ ينبع من أعماق الإنسان ، كالنهر الجوفي الذي يروي الأراضي القاحلة دون ضجيج . فالرحمة لا تحتاج إلى صكوكٍ أو عقودٍ لتثبيت وجودها ؛ إنها تُولد مع القلب النقي ، وتنمو مع الإيمان بأن الإنسانية تستحق أن تُحفظ بكرامتها ، حتى في أحلك اللحظات .
لو كانت الرحمة تُباع ، لتحولت إلى أداةٍ للمساومة ، يستخدمها الأقوياء لترويض الضعفاء ، أو لابتزازهم تحت شعارات براقة . ولو كانت تُشترى ، لانحصرت في أيدي من يملأون جيوبهم ، ولانتهت إلى سلعةٍ يتنافس عليها الأغنياء ، بينما يبقى الفقراء محرومين منها.
لكن طبيعة الرحمة تأبى أن تكون جزءًا من هذه المعادلة المادية ؛ فهي تتدفق طوعًا ، كالماء الذي يرتوي منه العطشان دون أن يطلب .
إنها تعبيرٌ عن إنسانية الإنسان ، لا عن مصلحته ، وانعكاسٌ لصفاء الروح ، لا لحسابات العقل .
أما القوانين ، فهي قادرةٌ أن تنظم حياتنا ، أن تحدد العقوبات ، أن ترسم الحدود ، لكنها عاجزةٌ عن زرع الرحمة في القلوب . كم من قانونٍ كُتب ليُجبر الناس على التعاطف ، فإذا بهم يمتثلون له ظاهريًا ، بينما قلوبهم تقف متحجرةً خلف ستار الامتثال ! القوانين قد تُخيف الإنسان كي لا يؤذي ، لكنها لا تُعلمه كيف يُحب .
الرحمة لا تُفرض بالترهيب أو الترغيب ، بل تُكتسب بالتجربة العميقة ، بالإحساس بآلام الآخرين ، كأنها آلامك . إنها النداء الذي يصل إلى القلب دون وسيط ، فيحركه لينضح عطاءً دون انتظار مقابل .
والقلوب النقية وحدها هي التربة الخصبة التي تنمو فيها الرحمة . قلوبٌ لم تُلوثها الأحقاد ، ولم تحجبها الأنانيات ، ولم تشوهها المصالح الضيقة. قلوبٌ ترى في كل إنسانٍ قصةً تستحق التقدير ، وجرحًا يحتاج إلى مداواة . هذه القلوب لا تنتمي إلى دينٍ أو عرقٍ أو ثقافةٍ محددة ؛ فالنقاء لا جنسية له ، والرحمة لا لون لها .
إنها بوصلةٌ إلهيةٌ موجهة نحو الخير ، حتى عندما يصر العالم على الشر . تأمل في الأم التي تحتضن طفلها بلا شروط ، في الغريب الذي يمد يده لإنقاذ آخرين من تحت الأنقاض ، في القاضي الذي يزن الأمور بميزان العدل قبل القانون ، في الطفل الذي يشارك لقمة طعامه مع كلبٍ جائع .
هؤلاء لم يقرؤوا كتبًا عن الرحمة ، لكنهم عاشوا إنسانيتهم بكل بساطة .
اليوم ، وفي زمنٍ يختلط فيه الحابل بالنابل ، نحتاج أن نعود إلى تلك الروح النقية التي تجعل من الرحمة خيارًا يوميًا ، لا ظرفيًا . خيارًا نصنعه حين نقرر أن نكون أبطالًا صامتين في حكايات الآخرين الممزوجة بالألم .
قد لا نغير العالم بقراراتنا ، لكننا سنصنع عوالم صغيرة داخل كل نفسٍ نلمسها ، تُذكر الجميع بأن الخير لا يزال ممكنًا ، فالرحمة ليست ضعفًا ، بل هي قوةٌ جبارة تُسقط جبال الأنانية ، وتُحيي موات القلوب . ربما لن نصل إلى يومٍ تُصبح فيه الرحمة قانونًا عالميًا ، لكننا قادرون أن نجعلها دستورًا نحمله في صدورنا ، نُورًا نحمله في أعماقنا، نزرعه حيثما خطونا.
في النهاية ، قد لا نستطيع أن نمنح العالم شيئًا أعظم من أن نكون سببًا في تخفيف جرحٍ ، أو إزالة ظمأٍ ، أو إضاءة ظلمة . لأن الرحمة ، في أبسط صورها ، هي أن تلمس الحياة بلطفٍ ، كأنك تمسح دمعةَ الكون بصمت .
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه