الصمت الذي يصرخ : رحلة المتعبين في عالم لا يسمع همساتهم

بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
نائب رئيس قسم الأدب ✍🏻
ثَمّة أناسٌ يحملون في صمتهم عواصف لا تُرى ، وأوجاعاً لا تُقرأ في تعابير وجوههم ، يعيشون بيننا كأشجارٍ واقفةٍ بثباتٍ تحت المطر ، تُخفي جذورها المتشابكة تحت الأرض ، بينما تظهر للعالم أوراقها الخضراء الهادئة . هم أولئك الذين تعلّموا أن يُنظِّموا أنفاسهم حتى في عزّ العواصف ، يُطبِّقون على جراحهم أغطيةً من الابتسامات ، ويُخفون ارتباك قلوبهم خلف تفاصيل يوميةٍ مُرتَّبة . إنهم بارعون في إتقان فنّ الاختباء خلف “لا شيء” ، وكأنّهم يكتبون قصص معاناتهم بحبرٍ سريٍّ لا يقرأه إلا الظلام.
لا يحتاج الأمر إلى دموعٍ أو صراخٍ كي تكون متعباً ، فالألم أحياناً يصير لغةً صامتةً تترجمها العيون فقط ، فهم لا يختارون الصمت لأنّهم لا يملكون كلمات ، بل لأنّ الكلمات نفسها تصبح بلا معنى حين تتحوّل التجربة إلى فجوةٍ بين الأرواح .
كم مرّة حاولوا أن يشرحوا لغيرهم ذلك الثقل الذي يحملونه ؟
كم مرّة أرادوا أن يقولوا : ” أنا هنا ، أتعثّر ، أتألم ، أناديكم “، لكنّهم اكتشفوا أنّهم يتحدّثون بلغةٍ لا يفهمها مَنْ حولهم . فالناس تُصدّق ما ترى ، والظاهرُ الواضحُ يغلبُ دوماً على المخفيّ المُعقَّد. إنّهم يعيشون في دوامةٍ من التناقض : يبتسمون كي لا يُخيفوا أحداً ، وفي الوقت نفسه ، يختنقون لأنّ أحداً لا يخاف عليهم !
المُتعبون الصامتون لا يشتكون لأنّهم يعرفون أنّ الشكوى لن تُغيّر من الواقع شيئاً ، ولأنّهم تعلّموا أنَّ البكاء في مكانٍ لا يوجد فيه مَنْ يمسح الدموع هو إهدارٌ للكرامة .
هم يبنون جدراناً عاليةً حول قلوبهم ، ليس كي يمنعوا الآخرين من الدخول ، بل كي لا يروا الفوضى التي بداخلها . إنّهم يُجرّبون كل يومٍ أن يكونوا “طبيعيين” ، بينما يشعرون كأنّهم غرباء في عالمٍ يطلبُ منهم أن يكونوا سطحيين كي يُقبَلوا . كلّما تقدّموا خطوةً في إخفاء الألم ، ابتعدوا ميلاً عن إمكانية أن يُحبَّهم أحدٌ كما هم ، بضعفهم ، بتعثّرهم ، بضحكاتهم المليئة بالثقوب.
المأساة ليست في أنّ الناس لا تُحبّهم ، بل في أنّهم يظنّون أنّهم لا يستحقون الحبّ إلا إذا اختبأوا ، هم يقدّمون للعالم نسخةً مُزيّفةً من أنفسهم ، نسخةً مُشرقةً بلا شوائب ، ثمّ يتساءلون لِمَ يشعرون بالوحدة رغم أنّ الجميع حولهم ؟! المسافة بين ما يعيشونه داخلياً وما يُظهرونه خارجياً تصنعُ غربةً لا تُحتمل ، لكنّها الطريقة الوحيدة التي اعتادوا عليها للبقاء ، هم يخشون أن يُحبَطوا إذا كشفوا الحقيقة ، ويخشون أن يُحبَطوا أكثر إذا استمروا في الكذب.
في النهاية ، هؤلاء لا يطلبون شيئاً إلا أن يُسمَعوا دون حُكم ، أن يُلمسوا دون خوف ، أن يُقال لهم : “أرى كم أنت متعب ، ولستَ مضطراً لأن تشرح”. هم يبحثون عن يدٍ تمسكهم ليس لأنّهم سيسقطون ، بل لتذكّرهم أنّهم ما زالوا قادرين على الوقوف . لكنّهم ، وحتى في صمتهم ، يصرخون بأعماقهم كي يفهمَهم أحد … صرخةٌ قد لا تُسمع أبداً ، لكنّها تظلُّ حقيقةً مقدّسةً في قلب كلِّ من يعرف معنى أن يكون إنساناً يحملُ الكونَ على كتفيه ، ويُغنّي للحياة بأعصابٍ مُنهكة.
فهل سنكون يوماً ذلك الشخص الذي يرى الصامتين ، لا صمتهم ؟
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه