مشاهير

أكذوبة البراءة : حين تلبس الحياة أقنعة الواقع

البراءه شئ جميل

بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب ✍🏻

كنا نصدق أن العالم يرتدي ألواناً ناعمة كتلك التي نرسمها في دفاتر المدرسة ، نلهو تحت سقف سماء تبدو لنا زرقاء بلا غيوم ، نعتقد أن النجوم تُمسك بالأيدي إذا ما وقفنا على أطراف الأصابع ، لم نكن نعلم أن البراءة التي نحملها كشعلة مضيئة بين أضلعنا ستتحول يوماً إلى رمادٍ يتطاير مع رياح الواقع .
لقد أخفت عنا طفولتنا أن الحياة ليست حكاية تُروى قبل النومو، بل معركةٌ صامتة تُخفي في طياتها ضحكاتٍ مزيَّفة ، ووعوداً تذوب كالثلج تحت شمس المصالح ، كنا نركض خلف الفراشات نعتقد أن الجمال حقيقة مطلقة ، لكننا لم ندرك أن بعض الفراشات تحمل في أجنحتها سمّاً يُشبه ابتسامات من التقيناهم في الطريق.

لم تُخبرنا تلك المرحلة المشرقة أن الوجوه التي نراها ليست سوى مرايا عاكسة لما نريد رؤيته ، لا لما هو كائن ، كنا نعتقد أن الصدق يُلمع في العيون كالنجوم ، لكننا اكتشفنا لاحقاً أن الكذب قد يرتدي ثوب الإخلاص ، وأن الصمت أحياناً يكون صرخةً لا تُسمع .
صُدمنا حين سقطت الأقنعة فجأة ، وكشف لنا الوجه الخفي للحياة عن شرنقةٍ من الأسئلة :-
لماذا يختفي الحب خلف كلماتٍ جوفاء ؟
ولماذا تتحول الأحلام إلى أرقٍ ليس له نهاية ؟
لقد زرعت فينا الطفولة بذور الثقة ، ثم جاءت الحياة تحمل منجلاً يحصدها واحدةً تلو الأخرى ، تاركةً جراحاً لا تكف عن النزف.

كبرنا وفي صدورنا شوقٌ إلى أيامٍ كنا نعد فيها السنوات لنبلغ ” النضج ” الذي وُصِفَ لنا بأنه جنّة الحرية والتحقق ، لكننا وجدنا أنفسنا في متاهةٍ من المسؤوليات التي تشبه سلاسلَ غير مرئية. تعلّمنا أن نرتدي الأقنعة ببراعة ، نبتسم حين يُخفي قلبنا آلاف الدموع ، نُصفق لمن لا نطيقهم ، ونحبس أحلامنا كي لا تسخر منها “حكمة الكبار”. حتى الحب ، ذلك الشعور الذي كنا نظنه نقياً كالندى ، أصبح لغزاً معقداً ، نبحث عنه في عيونٍ تختفي خلف شاشات الهواتف ، أو تحت أقنعة “البروتوكولات الاجتماعية”.

الأصعب أننا تعلمنا ألا نثق حتى في ذواتنا ، صرنا نتساءل :-
هل كنا ساذجين لدرجة التصديق ؟ أم أن الحياة هي من تغيرت ؟
الحقيقة أنها لم تتغير ، نحن من كشفنا ستارها المبهرج ، ورأينا خلفه عالماً يلهث خلف الماديات ، يُقدس النجاح حتى لو كان مقبرةً للقيم .
لقد حوّلنا البراءة إلى ذاكرة نسترجعها في لحظات الضعف ، حين يُرهقنا ثقل الأيام ، فنتمسك بها كطفلٍ يتشبث بدميته الممزقة .
نتذكر كيف كنا ننام دون خوف من الغد ، نصدق أن كل مشكلة تُحل بكلمة “آسف” ، أو قبلة على الجبين .

الآن ، نحن هنا … نحدق في المرآة فلا نجد إلا ظلالاً للذين كنا هم ، نتمنى لو نعيد عقارب الساعة إلى الوراء ، نعود إلى زمنٍ كنا فيه نركب أرجوحة الأحلام ، لا نعرف أن الأرض التي تحتنا قد تهتز يوماً فنسقط .
نريد أن ننام في حضن الأم مرة أخرى ، نسمع منها أن الوحوش ليست حقيقية ، لكننا نعرف الآن أن الوحوش حقيقية ، بل وقد نكون نحن أحياناً . نضحك على أنفسنا لأننا صدقنا أن “الكبار” يملكون كل الإجابات ، بينما هم في الحقيقة يختبئون وراء أسئلتهم أيضاً.

الزمن لا يعود ، والقلوب لا تلتئم بسهولة ، لكن ربما في هذا الألم بصيصُ نور : أننا رغم الخذلان ، رغم الأقنعة والجراح ، ما زلنا نبحث عن قطعة من تلك البراءة المفقودة . نلتقطها في ابتسامة طفل ، أو في لحظة صمتٍ تحت سماء الليل ، نهمس لأنفسنا :-
” ربما … ربما يكفي أننا عشنا مرةٌ نصدق أن كل شيءٍ جميل ” .

هذا الإيمان ، ولو كان شظية ، قد يكون كل ما نحتاجه لنستمر في حكايتنا ، حامِلين في أعماقنا طفلاً ما زال يؤمن أن الفراشات ، رغم سُمّها ، تستحق أن تُرسم .

سنلتقى إن كان فى العمر بقيه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى