أيمن شاكر يكتب : أفعال الوجود الخفية : حين تكون حقيقتك ما تفعله في الظل

بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب ✍🏻
في عالم يصرخ بوجودنا على كل منصة ، ويسجل كل “لايك” كدليل على القيمة ، ويراقب كل خطوة تحت عدسة التقييم المستمر … تبرز قيمة مختلفة تمامًا . قيمة لا تُقاس بالمشاهدات ، ولا تُكافأ بالتصفيق ، ولا تُسجل في سجل الأضواء. إنها قيمة ما تفعله عندما لا يراك أحد .
تلك الأفعال التي تنبع من أعماقك ، من دون انتظار رد ، أو طمع في مكافأة ، أو خوف من عقاب ، أو رغبة في صورة . تلك هي ، حقيقتك .
تخيل للحظة : إنسانًا يمر بضائقة مالية قاسية ، الوقت ضيق ، والهموم ثقيلة . ثم يتذكر صديقًا أو حتى مجرد معارف يمرون بأشد . فيخرج من قليله ، أو يبذل من وقته الثمين ، ليس لأنه مدين لهم ، أو لأنهم وقفوا معه من قبل (ربما لم يفعلوا)، بل لأن قلبه النقي رأى الحاجة فرأفته .
هذا ليس ضعفًا ، كما قد يظن البعض في زمن يقدس القسوة باسم “الواقعية”. هذا هو نقاء القلب في أبهى صوره . فعل لا يُراد به إلا سد ثغر ، أو تخفيف عبء ، لأن وجود الألم لدى الآخر لا يطاق على النفس الطيبة . إنه البذل في لحظة العوز ، وهو أصدق بذل.
وانظر إلى ذلك الذي يمد يده بالمساعدة ، لا لأنها ستوصله لمصلحة ، أو ترفع ذكره على الألسن ، أو تحفظ له “جميلًا” يُسترد في يوم الحاجة.
بل لأنه ببساطة يستطيع المساعدة . روحه الكريمة لا تتحمل أن ترى سقوطًا يمكنها منعه ، أو عثرة يمكنها تسويتها . لا ينتظر شكرًا ، ولا يسجل في دفتر الذكريات ليطالبه الغد . هذا هو كرم الروح الحقيقي ، الذي يتدفق عطاءً كالنهر ، لا ليروي ظمأ معين ، بل لأن الجريان في طبيعته. إنه العطاء الذي لا يشترط المقابل ، لأنه في جوهره ، هو تعبير عن وفرة الروح واتساعها.
ولننظر إلى رحلة الإنسان مع نفسه ، ذلك السعي الدؤوب نحو التطوير والنمو ، كم من هذا السعي يكون حقيقيًا ؟ كم منه يكون نابعًا من رغبة صادقة في أن تصبح نسخة أفضل من ذاتك ، لا لمجرد إسعاد أبٍ راضٍ ، أو إثبات تفوق على منافس ، أو إبهار محيط اجتماعي ؟ التطور الحقيقي هو الذي ينبع من حب الذات النضيف والصادق . حب لا يعني الأنانية ، بل يعني احترامًا عميقًا للإمكانات الكامنة داخلك ، ورغبة في استخراجها وصقلها ، ليس لأجل أحد سواك. إنه الاستثمار في الذات من أجل الذات ، والارتقاء لأنك تؤمن بأنك تستحق أن تكون أفضل .
هذا الحب هو المحرك الأقوى والأكثر استدامة نحو التميز الحقيقي ، غير الملوث بحسابات الآخرين.
هذه الأفعال البذل في الضيق ، والعطاء بلا حساب ، والارتقاء بدافع حب الذات هي محك الإنسانية الحقيقية . هي الامتحان الذي نؤديه يوميًا في مختبرات حياتنا الخفية ، بعيدًا عن أعين المراقبين . فالأفعال المرئية قد تكون قناعًا ، أما الأفعال غير المرئية فهي الوجه الحقيقي للروح .
فيها تكمن نيتك الصافية ، وقيمتك الأصيلة ، وقوة شخصيتك بعيدًا عن كل زيف ومظهر . هي التي تحدد من تكون حقًا عندما تخلع كل الأقنعة الاجتماعية وتواجه مرآة ضميرك.
في زحمة الحياة وصخبها ، وفي خضم الضغوط التي قد تدفعنا أحيانًا إلى التمثيل أو التكيف على حساب أصالتنا .
تذكر دائمًا : قيمتك الحقيقية لا تُقاس بالشهادات التي تُعَلَّق على الجدران ، ولا بالثروات التي تُحصى في البنوك ، ولا حتى بالمديح الذي يملأ الأسماع .
قيمتك الحقيقية ، جوهرك الذي لا يتزعزع ، يكمن في تلك اللحظات الصامتة حيث تختار الخير لأنك تؤمن به ، حيث تبذل لأن قلبك نقي ، حيث تتطور لأنك تحترم إنسانيتك . تلك الأفعال التي لا يراقبها أحد سوى الله وضميرك ، هي التي تبني إرثك الخالد ، وتزرع الخير في دنيا قد لا تعرف مصدره ، وتجعل من وجودك في هذا العالم نورًا خفيًا يضيء ، ولو قليلاً ، طريقًا لروح حائرة ، أو يدفئ ، ولو قليلاً ، قلبًا يتجمد من قسوة الدنيا.
فكن كما تكون حين لا يراك أحد ، فذلك أنت الحقيقي … ذلك أنت الذي يبني عالمًا أفضل ، فعلًا خفيًا ، وقلبًا نقيًا ، وروحًا كريمة ، في صمت … ولكن بصمته الأعمق .
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه