مشاهير

أيمن شاكر يكتب : أين تختفي الذكريات عندما ينتهي الحب ؟

بين طيّات النسيان : رحلة مشاعر فقدت عنوانها

بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
نائب رئيس قسم الأدب ✍🏻

في صمت الليالي ، وأثناء لحظات التأمل الهادئة ، يطلّ هذا السؤال كشبحٍ حزين :
أولئك الذين افترقوا بعد أن تشابكت قلوبهم وأرواحهم … أين ذهبت مشاعرهم ؟
أين تبخّر ذلك الحب الذي ملأ الدنيا نوراً وحرارة ؟
أين اختفت الرسائل التي كانت تنقل دقّات القلب قبل الكلمات ؟
أين تلاشت الذكريات التي نسجت من اللحظات الجميلة عالماً خاصاً بهم ؟ ببساطة … أين ؟

هذا السؤال ، رغم بساطته الظاهرة ، يحفر في أعمق طبقات التجربة الإنسانية . إنه استفسار عن مصير غير ملموس ، عن طاقة عاطفية هائلة بدت وكأنها تبخرت في الهواء ، تاركةً وراءها فراغاً صامتاً أو ألماً نابضاً .
فهل تختفي المشاعر حقاً ؟ أم أنها تتحول ، تغير مسارها ، تتبدل مثل الماء من سائل إلى بخار ؟

الحب الذي كان : طاقة لا تفنى
الحقيقة الأولى التي يجب أن نستوعبها هي أن المشاعر لا تُفنى . قانون حفظ الطاقة ينطبق على المشاعر أيضاً ، وإن بشكل مجازي . ذلك الحب الشديد ، تلك المشاعر الجياشة ، ذلك الولع الذي كان يملأ الصدر … لا يختفي فجأة كأنه لم يكن.

فالفيزياء تخبرنا أن الطاقة لا تفنى ولا تستحدث من العدم ، بل تتحول من شكل لآخر . كذلك المشاعر . فطاقة الحب الهائلة تلك لا تنطفئ ، بل تتحول . قد تتحول إلى ألم ، إلى حنين ، إلى غضب ، إلى خيبة أمل ، إلى حكمة ، أو حتى إلى برودة مقصودة .
الذكرى المؤلمة التي تلسع القلب الآن هي في جوهرها تحوّلٌ لتلك المشاعر الدافئة التي كانت يوماً ما . الألم نفسه دليل على وجودها السابق وقوتها.

الرسائل والذكريات : أرشيف شاهد
أما الرسائل ، تلك الكلمات المكتوبة بحبر المشاعر ، والصور التي التقطت ابتسامات عفوية ، والهدايا التي حملت دلالات خاصة … فهي لا تختفي جسدياً في الغالب . إنها تتحول إلى أرشيف شاهد . تصبح وثائق صامتة على فصل من فصول الحياة انتهى .
قد تُخبأ في صندوق في أعلى الخزانة ، أو تُحذف رقمياً ، أو تُحرق في لحظة غضب أو ألم ، لكن وجودها المادي أو انعدامه ليس هو المهم . الأهم هو تحول دلالتها . الكلمات نفسها التي كانت تبعث الدفء تصبح كالرماد ، والصور التي كانت تثير البهجة تتحول إلى طلقات حزن . هي لم تفقد حروفها أو ألوانها ، بل فقدت قدرتها على إشعال الفرح في القلب الذي تحطم . لقد سُلب منها معناها الأصلي وأصبحت شواهد قبر على علاقة دفنت .

اللحظات الجميلة : أشباح في قصر الذاكرة
واللحظات الجميلة ؟ تلك المسامرات حتى الفجر ، تلك الضحكات التي كانت تهزّ الأضلاع ، تلك النظرات المليئة بالتفاهم ، تلك الرعاية في وقت المرض ، تلك المفاجآت الصغيرة … أين تذهب ؟

إنها تتحول إلى أشباح تسكن قصر الذاكرة ، قد تظهر فجأة في لحظة غير متوقعة : رائحة عطر مألوفة ، لحن أغنية قديمة ، مشهد في شارع معين . لكنها عندما تظهر ، لا تعود تحمل الدفء نفسه . يصاحب ظهورها غالباً شعورٌ غامر بالحزن أو الحنين الممزوج بالألم أو حتى الندم . لم تعد اللحظة جميلة بمعزل عن سياقها المفقود . جمالها أصبح مرهوناً بزمن مضى وانتهى ، فأصبحت ذكراها كزهرة جميلة محنطة تحتفظ بشكلها ، ولكنها فقدت عطرها الحي ونضارتها.

أين إذن ؟ في أرض التحولات
إذن ، الإجابة على السؤال الملح أين ؟ تكمن في فهم ديناميكية التحول . لا شيء يضيع تماماً في عالم المشاعر والذاكرة . المشاعر تتحول من حب إلى مشاعر أخرى قد تكون سلبية أو محايدة مع الزمن ، الرسائل والذكريات المادية تتحول من رموز حب إلى شواهد أثرية أو جروح مفتوحة أو مجرد أوراق قديمة . اللحظات الجميلة تتحول من واقع معاش إلى ذكريات أشبه بالأحلام أو الأشباح ، تحمل نكهة مرارة الفقدان .

لماذا هذا التحول مؤلم ؟
الألم يأتي من فجوة التوقعات . كنا نؤمن ، ونحن في أوج العلاقة ، أن هذه المشاعر والذكريات واللحظات هي “أبدية” بطريقة ما ، أو على الأقل أن نهايتها ستكون واضحة ومفهومة .
لكن الواقع يقدم لنا هذا الاختفاء التدريجي ، هذا التبخر ، هذا التحول الصامت الذي لا نتحكم به. نشعر بالخيانة ليس فقط من الطرف الآخر ربما ، بل من ذاكرتنا نفسها التي تقدم الذكريات بلا مشاعرها الأصلية ، ومن الزمن الذي يمضي غير مكترث ، ومن المشاعر نفسها التي ترفض البقاء على حالها.

الختام : وطن الروح الذي لا يمحوه الزوال

فلا تبحث عن مشاعرك الماضية في مكان واحد ، فهي ليست حقيبة ضائعة.ط . انظر بداخل أعماقك ، وستجدها قد تحوّلت إلى ندبة تشير إلى قدرتك على الحب ، أو إلى حكمة تكتب سطورها على صفحات قلبك .
الرسائل ؟ ربما أكلتها النيران أو ابتلعها صندوق مظلم ، لكن كلماتها صارت حروفاً من نور في سجلّ نموك . أما الذكريات الجميلة ، فتلك لم تختفِ ، بل صارت ألواناً في لوحة روحك الكبيرة ، حتى لو بدت اليوم باهتة أو حزينة. إنها تشهد أنك عشت ، أحببت ، تألمت ، ونهضت .

فالحب الذي يغيب عن العين لا يموت في القلب ، بل يتحول إلى تراب خصب تنبت منه حكمة جديدة ، وقوة لم تكن تعرفها ، وقدرة أعمق على العطاء حين يحين الوقت . فالمشاعر لا تضيع ، بل تهاجر من أرض العلاقة إلى وطن الروح الأوسع ، حيث تصبح جزءاً من سرديتك الإنسانية ، شاهدةً على أنك ، رغم كل شيء ، قادر على أن تحب … وأن تستمر .

سنلتقى إن كان فى العمر بقيه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى