مشاهير

أيمن شاكر يكتب : الأسْرُ الذي نَشتاقُ إليه : هو القوه الذي تحررنا من غربةِ الروحِ

بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
نائب رئيس قسم الأدب ✍🏻

“الإنسانُ أسيرُ مَن يفهمُه ، ويدعمُه ، ومن يُريه في نَفْسِه جمالًا كانَ نَفْسُه لا يعلمُه .
” كلماتٌ تخترقُ السطحَ المألوفَ للعلاقاتِ الإنسانيةِ لتكشفَ عن حقيقةٍ عميقةٍ وغريبةٍ في آنٍ واحد : إنَّ أسمى أشكالِ “الأسْرِ” قد يكونُ أرقى درجاتِ الحريةِ والتحقُّقِ . فهذا القيدُ الذي تصفهُ العبارةُ ليس قيدَ سلاسلٍ أو جدرانٍ ، بل هو قيدُ القلبِ والروحِ ، قيدٌ نطلقهُ طواعيةً نحوَ مَن يمنحُنا إحساسًا بالوجودِ الحقيقيِّ.

فالفهمُ هنا ليس مجردَ سماعِ الكلماتِ ، بل هو الغوصُ في أغوارِ الصمتِ بينها ، قراءةُ الهمسِ المختبئِ خلفَ الضحكةِ المرتفعةِ ، وإدراكُ العاصفةِ تحتَ مياهِ الهدوءِ الظاهرةِ .
حينَ يبذلُ شخصٌ جهدَه لفهمِ لغزِك الداخليِّ ، لغتكَ الخاصةِ التي قد لا تتقنُها أنت نفسك ، يشعرُ الإنسانُ أنهُ وُجِدَ أخيرًا .
هذه الرؤيةُ العميقةُ تُسقِطُ عنَّا عبءَ التفسيرِ الدائمِ ، عبءَ الاختباءِ خلفَ أقنعةِ ” الطبيعيِّ ” و
” المقبولِ “. في حضرةِ مَن يفهمُك ، تسقطُ الجدرانُ الوهميةُ ، وتتنفسُ روحُك حريةً لم تعرفها من قبل ، حريةُ أن تكونَ على حقيقتِك دونَ خوفٍ أو تبريرٍ .
وهنا يكمنُ التناقضُ الجميلُ : أن تُسَرَّ بكيانِك أمامَ مَن يراكَ بوضوحٍ ، فتكتشفَ أنَّ هذه الرؤيةَ هي أرضٌ صلبةٌ تقفُ عليها بثقةٍ ، لا سجنٌ يحدُّ منك.

ثم يأتي الدعمُ ، ليس كجسرٍ مؤقتٍ فوقَ هاويةٍ ، بل كأرضٍ صلبةٍ تمتدُّ تحتَ قدميكَ فتشعرُ أنَّ السقوطَ مستحيلٌ . هو ذاكَ الظلُّ الواقي الذي لا يقولُ ” لا تقلق ” فحسب ، بل يقولُ ” حاولْ وسأكونُ هنا إن وقعتَ ، وسأمدُّ لكَ يدي دونَ لومٍ”.
هذا النوعُ من الدعمِ يُشعرُ الإنسانَ بأنَّ أحلامَه ليستْ أوهامًا ، وأنَّ ضعفَه ليسَ عيبًا قاتلًا ، بل جزءًا من رحلتهِ الإنسانيةِ . في هذا الدعمِ غيرِ المشروطِ ، غيرِ المربوطِ بالإنجازِ أو الكمالِ ، تجدُ النفسُ شجاعةً لتواجهَ عوالمَها الداخليةَ والخارجيةَ بصدقٍ .
تصبحُ أسيرًا لهذه القوةِ التي تُعطَى لكَ دونَ مساومةٍ ، فترتفعُ عن الأرضِ بأجنحةٍ من ثقةٍ لم تولدْ من فراغٍ ، بل من حضورٍ إنسانيٍّ ثابتٍ.

ولكنَّ التاجَ الحقيقيَّ لهذا الأسْرِ الطوعيِّ هو قدرةُ ذلكَ الشخصِ على كشفِ الجمالِ الكامنِ فيك ، ذاكَ الذي ظلَّ مجهولًا حتى لنفسِك . إنه كمنْ يمسكُ بمرآةٍ سحريةٍ تعكسُ لا ما تراهُ عيناكَ كلَّ يومٍ ، بل إمكاناتِك الخفيةَ ، نقاءَ روحِك ، شجاعةَ قلبِك ، أو حتى لطفًا في تعاملكَ لم تلتفتْ إليه. إنه يرصدُ شرارةَ الإبداعِ في نظرةٍ عابرةٍ ، أو عمقَ الإحساسِ في دمعةٍ مُكبتةٍ ، أو قوةً في صبرٍ تظنُّه ضعفًا . هذه الرؤيةُ الاستثنائيةُ هي هبةٌ لا تُقدَّرُ بثمنٍ ، فهي لا تُظهرُ لكَ جمالًا فحسب ، بل تُعيدُ تشكيلَ صورتِك عن ذاتِك . إنها تزرعُ في داخلكَ بذرةَ تقديرٍ ذاتيٍّ تنمو وتُزهرُ ، جاعلةً إياكَ ترى نفسَكَ بعيونِ الرحمةِ والإعجابِ التي تستحقها. في هذا الاكتشافِ ، تولدُ من جديدَ ، ليسَ كما يُرادُ لكَ أن تكونَ ، بل كما أنت في جوهرِكِ الجميلِ الذي كانَ دائمًا هناكَ ، لكنَّ أحدًا ، بما فيكَ أنت، لم يُلقِ له بالًا من قبلُ.

نعم ، إنَّ الإنسانَ أسيرٌ لهذا الفهمِ الذي يحررهُ من غربةِ الروحِ ، ولهذا الدعمِ الذي يُشعِرهُ بأنَّ العالمَ ليسَ عدائيًّا ، ولهذهِ النظرةِ التي تُخرجُ جمالَه الخفيَّ إلى النورِ . في عالمٍ يزدادُ عزلةً وصراعًا وتنافسًا ، يصبحُ هذا ” الأسْرُ ” الاختياريُّ هو الملاذُ والملجأُ . هو فعلُ ثقةٍ عميقٍ في إنسانٍ آخرَ ، ثقةٌ تجعلُنا نكشفُ عن أعماقِنا الهشةِ الجميلةِ . إنه اعترافٌ ضمنيٌّ بأنَّ كمالَنا لا يكمنُ في استقلاليتنا المطلقةِ ، بل في اتصالنا الصادقِ الذي يسمحُ لنا بأنْ نُرى ، أنْ نُدرك ، وأنْ نُحَبَّ على حقيقتِنا.

فلا عجبَ أن نشتاقَ لهذا الأسْرِ الذي يشبهُ جناحي طائرٍ يحمِلانِه نحوَ السماءِ ، لا قفصًا يحبسُه في الأرضِ . فهو الوحيدُ الذي يُذيبُ أغلالَ الوحدةِ ، ويُضيءُ عتمةَ الشكِّ ، ويُريكَ في مرآةِ وجودِكِ بَشريَّاً كاملاً ، جديراً بأن يُحَبَّ وأن يُحِبَّ ، ليسَ رغمَ هشاشتِه ، بل لأنَّ فيها يكمنُ جمالُه الأصيلُ الذي لم يرهُ أحدٌ قبلهُ ، حتى أنت .

سنلتقى إن كان فى العمر بقيه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى