مشاهير

أيمن شاكر يكتب : الحرية التي لا تراها العيون : لماذا قد تكون أسيرًا وأنت حرّ الخطى ؟

بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
نائب رئيس قسم الأدب ✍🏻

ننظر حولنا فنرى أجسادًا تتحرك ، خطوات تسير في الشوارع ، أيدي تعمل ، وأفواه تتحدث . نرى بشرًا يعيشون على أرض الواقع ، يمارسون شؤون حياتهم ظاهريًا كأحرار . ولكن كم من هؤلاء “الأحرار” هم في الحقيقة سجناء ؟
لا تحدّهم جدران حجرية ، ولا تقيدهم سلاسل حديدية ، بل هو سجن أكثر دهاءً وأشد إيلامًا : سجن المشاعر . سجن من صنع أيدينا ، ونحرسه بشراسة ، وكأننا حراس على متحف للآلام أو قصر للأوهام .
إنها المفارقة الصارخة : أن تكون جسديًا في أوسع الفضاءات ، ولكنك روحًا في أضيق الزنازين ، حبيس شعور واحد متجذر ، حزن لا يفارقك ، غضب يأكل من داخلك ، حب تحول إلى هوس ، كره يشوه رؤيتك ، أو حتى فرح جامد أصبح قيدًا يمنعك من رؤية ما بعده.

نخاف أن نترك ، نخاف أن نُسَلِّمَ ، نخاف أن نُنهي. كأن التمسك بالأشياء – حتى وإن كانت تثقل كاهل الروح – هو دليل على القوة ، بينما الحقيقة أن قوة العزيمة الحقيقية تكمن في فنِّ “الدعوة” : دعها تذهب .. دعها تنتهي .. هذا ليس استسلامًا ، بل هو انتصار للذات على إدمان الألم والراحة الوهمية في المألوف ، حتى لو كان مألوفًا سامًا .
ـ كم من علاقة انتهى زمنها ونحن نصر على إحياء جثة بلا روح ؟
ـ كم من حلم لم يعد يتناسب مع من صرنا عليه ونحن نتشبث بصورة بالية من الماضي ؟
ـ كم من خطأ ارتكبناه ونرفض أن نسامح أنفسنا ، فنحمل جثته على ظهورنا كل يوم ؟
التمسك هنا ليس وفاءاً ، بل هو حفر لقبر ندفن فيه حيويتنا الحاضرة على مذبح ماضٍ لن يعود.

فالحياة في جوهرها تغيّير ، الفصول تتقلب ، الليل يتبع النهار ، المد يأتي ثم الجزر .
فإنك تستمتع بتغير الأحوال ليس دعوة للسلبية أو عدم المبالاة ، بل هو دعوة للانسجام مع قانون الكون الأساسي : لا ثبات إلا التغير نفسه . مقاومة هذا التغير ، والتمسك الجامد بحال معين – حتى لو كان حال راحة أو فرح – هو كمن يقف في نهر جارف ويصر على أن المياه تتوقف عن الجريان عند قدميه . سينجرف لا محالة ، أو سيغرق تحت وطأة تيار الحياة الذي لا يرحم الجامدين. الاستمتاع بالتغير هو فهم عميق للسيولة الكونية ، هو المرونة التي تسمح لنا بالانحناء مع الريح دون أن ننكسر ، بالتحول دون أن نفقد جوهرنا .

هنا تكمن الحرية شعور قبل أن تكون فعلًا . إنها ذلك الفضاء الداخلي الرحب الذي تسبح فيه مشاعرنا دون أن تغرقنا ، الذي نعترف فيه بالحزن دون أن نغرق فيه ، بالغضب دون أن نتحول إلى بركان يحرق كل شيء ، بالفرح دون أن نتشبث به خوفًا من زواله ، بالحب دون امتلاك ، وبالكره دون تحويله إلى سمٍّ يقتلنا ببطء .
الحرية الحقيقية هي أن تكون سيد مشاعرك ، لا عبدًا لها . هي أن تراها قادمة كالغيوم في سماء نفسك ، فترحب بها ، تعيشها بوعي ،
ثم ” تطلقها “حين يحين وقت الرحيل ، دون حرس ودون متحف . هي أن تفهم أن المشاعر زوّار ، وليست سكّانًا دائمين ، ما لم نُجبرهم على البقاء.

فلماذا نصر على بناء هذه السجون الوهمية داخلنا ؟ لماذا نرفض أن نفتح الأقفال ونطلق سراح أنفسنا ؟ الخوف ربما . خوف من الفراغ الذي قد يخلفه الرحيل ، خوف من المجهول الذي يلي النهاية ، خوف من مواجهة ذواتنا الحقيقية عندما تخلو من ضجيج المشاعر القديمة . أو ربما الاعتياد ، فالسجين الذي قضى سنوات طويلة خلف القضبان قد يخاف من رحابة الفضاء الحر. لكن الحقيقة المرة هي أن ” ما زادتنا القيود إلا ألمًا ” . الألم الناتج عن الاختناق الداخلي ، عن رؤية الحياة تمر من خلف قضبان مشاعرنا المتصلبة ، عن الشعور بأننا نعيش ولكننا لا نحيا حقًا.

فيا أيها القارئ الجميل ، تحرر . ولكن ليس من الآخرين أولًا ، بل من الطغيان الخفي لمشاعرك الجامدة . ابدأ بأن تسمح لنفسك أن تشعر بكل شيء ، ثم امتلك الشجاعة لتسأل : هل هذا الشعور يخدمني اليوم ؟ هل هو زائر مرحب به أم سجين يجب إطلاق سراحه ؟ تعلم فن التخلي الاختياري ، فن إنهاء ما استنفذ وقته وهدفه.

افتح نوافذ روحك لرياح التغيير ، واستقبل كل حال بقلب منشرح ، واثقًا أن في كل نهاية بذرة بداية جديدة ، أكثر نضجًا وإشراقًا .
فالحرية ليست مكانًا تصل إليه ، بل هي قرار تتخله كل صباح : قرار ألا تكون حارسًا على سجن مشاعرك ، بل أن تكون طليقًا في فضاء روحك الرحب ، حيث لا قيود إلا اختياراتك ، ولا ألم إلا ما تمسكت به بعد رحيله .
أطلق سراحك ، فالعالم ينتظر رؤيتك طليقًا .

سنلتقى إن كان فى العمر بقيه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى