أيمن شاكر يكتب : العزّة أو العدم : رحلة الإنسان بين الكرامة والذلّ

بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب ✍🏻
في مشهدٍ مأساوي يتكرّر كل يوم، ترى الحُمُرَ تُساق تحت وطأة السلاح ، رافعةً أثقالاً ليست من طاقتها، عيونها غائرةٌ من الخوف والإرهاق، خطواتها متعثّرة تحت وابل الضربات. هي تسير لأنّها لا خيارَ لها، لأنّ سوط القهر هو محرّكها الوحيد. وفي جحورٍ مظلمة، تختبئ الفئرانُ ، لا تبرح أعماقها إلاّ خلسةً، خوفاً من فكّ قطةٍ أو مصيدةٍ قاتلة. حياتها سلسلةٌ من الرّعب المتواصل، حيث كلّ حركةٍ قد تكون نهايتها. وعلى الجانب الآخر، تحوم الذبابُ بلا هدفٍ سوى البحث عن النجاسات، تتجمّع على القاذورات والروائح الكريهة، لا ترى في العالم سوى دركات القذارة، فتلازمها وتقتات عليها.
هذه الصور ليست مجرّد مشاهد لحيواناتٍ في عالمها الطبيعي. إنّها إستعاراتٌ قاسيةٌ لوضعياتٍ إنسانيةٍ مهينة ، يرسمها القرآن الكريم ليُحذّرنا من السقوط فيها. فالله سبحانه وتعالى، في سورة الأنفال، يضعنا أمام مرآةٍ قاسية :
“وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ. إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ. وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ ۖ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ” .
هنا يُجسّد القرآن أسوأ دركات الخلق فيمن هم “صمٌّ بكمٌ لا يعقلون”. لماذا ؟ لأنّهم فقدوا جوهر إنسانيتهم : العقل والإرادة والكرامة .
فالإنسان ليس حماراً ، الله ميّزه بنعمة العقل التي تُمكّنه من التمييز بين الحقّ والباطل، بين الخير والشرّ، بين العزّة والذلّ. العقل هو سلاحه لتحرير إرادته، لا لقمعها. فكيف يقبل إنسانٌ أن يُهدّد بالسلاح (المادي أو المعنوي) ليُساق حيث لا يريد؟ كيف يرضى أن يُحمّل فوق طاقته، أن يُستنزف جسداً وروحاً، دون أن يملك حقّ الاعتراض أو الرفض؟ هذه ليست حياةً ، بل عبوديةٌ مقنّعة ، تجعله أدنى من الحمار الذي لا ذنب له سوى غياب وعيه.
والإنسان ليس فأراً نعمة الأمن والطمأنينة من أعظم النعم، لكنّ الخوف المُزمن الذي يُقعِد صاحبه في جحره، يمنعه من الخروج إلى نور الحياة، من طلب الرزق الحلال، من الدفاع عن الحقّ، من مواجهة الظلم – هذا الخوف هو موتٌ بطيءٌ للإرادة . الفأر يختبئ غريزياً، أمّا الإنسان فخلقه الله ليعمر الأرض، ليواجه التحديات، ليبني ولا يهدم، ليقف شامخاً في وجه الباطل. الخوف المشروع دفاعٌ، أمّا الخوف المرضي الذي يُلغي الإرادة ويُفقد الكرامة، فهو سقوطٌ في حضيض “الدوابّ” التي وصفها القرآن.
والإنسان ليس ذبابةً ! الله أعطاه بصراً وبصيرةً ليرى الجمال والخير والفضيلة، ليتطلّع إلى المعالي، ليبحث عن الطيّبات. فكيف يرضى لنفسه أن تكون همّته منخفضةً كالذباب، لا ترى في الوجود سوى القاذورات والرذائل؟ كيف يُحوّل حياته إلى تجمّعٍ حول النجاسات المادية (كالمال الحرام) أو المعنوية (كالغيبة والنميمة والفساد الأخلاقي) ؟ هذا ليس نقصاً في البصر، بل عمى القلب والضمير ، هو رضا بالدونية، واستسلام للدناءة التي تجعل الإنسان أسوأ من شرّ الدوابّ، لأنه خيّر باختياره القبيح!
الكرامة الإنسانية ليست ترفاً، بل هي جوهر الخلقة وأساس المسؤولية . العقل الذي كرّمنا الله به هو أمانةٌ في أعناقنا. أمانة استخدامه لتحرير إرادتنا من أغلال الخوف والجهل والإكراه. أمانة توظيفه لرفض الذلّ بكلّ أشكاله :
ذلّ القهر السياسي، ذلّ الاستعباد الاقتصادي، ذلّ الخضوع للخرافات والأباطيل، ذلّ الانغماس في الرذيلة والقذارة الأخلاقية. الإرادة الحرة هي امتثالٌ لأمر الله الذي خلقنا أحراراً، ورفضٌ قاطعٌ لكلّ ما يُشبهنا بالحُمر المُهدّدة أو الفئران الخائفة. إنّها القوّة التي تدفعنا لتحمّل الأثقال بإرادتنا، لا بإكراهٍ يهين نفوسنا، وللبحث عن الطيبات والارتقاء، لا للتغذّي على القاذورات.
💧فيا من ترزح تحت ثقل الإكراه :
تذكّر أنك إنسان! لا تسمح للسوط (بأي شكلٍ كان) أن يُملي عليك مسارك. ارفع رأسك، استخدم عقلك، وابحث عن سبيل التحرّر بكرامة.
💧ويا من استبدّ بك الخوف :
اخرج من جحر الذلّ ! الحياة خارج الجحر فيها نورٌ وأملٌ وفرصٌ للعزّة، حتى لو كانت محفوفةً بالمخاطر. المخاطر التي تُعلي شأن الإنسان خيرٌ ألف مرةٍ من الأمان الوهمي في جحور الذلّ.
💧ويا من انجذب إلى حضيض الرذائل :
ارفع بصرك! العالم واسعٌ جميلٌ مليءٌ بالخير والجمال والفضيلة. لا تُهين نفسك بالتكاثر على القاذورات. نظّف قلبك وهمّتك كما تنظّف جسدك وثيابك.
💧فاختر اليوم :
إمّا أن تقف شامخاً بعقلك وإرادتك وكرامتك، فترتفع إلى مصافّ البشر الأحرار الذين كرّمهم ربّ العالمين. وإمّا أن تستسلم، فتتحوّل إلى مجرّد صورةٍ متحرّكةٍ من صور الذلّ – حمارٌ يُساق بالعصا، فأرٌ يرتعد في الظلام، أو ذبابةٌ تتلذّذ بالقذارة. الذلّ اختيارٌ قبل أن يكون قدراً، والكرامة معركةٌ لا تنتهي إلّا بالنصر أو الفناء. فكن عبداً لله وحده، حرّاً بإرادته، عزيزاً بعزّته، أو فاقداً لروحك في عالم الدوابّ الصمّاء … فما أسوأ أن تتنفّس دون أن تحيا، وتعيش دون أن تكون إنساناً .
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه