مشاهير

أيمن شاكر يكتب : بين الرماد واللهب : رحلة القلب البشري في مدار الصبر والغضب

بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
نائب رئيس قسم الأدب ✍🏻

كم من مرة تُخفي النار المتأججة خلف ستار الهدوء، وتُكلِّل رأسك بتاج الصبر وأنت تتجرع مرارة الأذى ؟
كم من مرة تضغط على الجمر المتقد في صدرك، وتتماسك وكأنك صخرة لا تتأثر، بينما العالم من حولك يظن أنك بلا مشاعر ؟
هذه هي المفارقة الإنسانية الأزلية التي نُقشت بألمٍ وصبرٍ في تلك الأبيات الشعرية العميقة : القلب الذي يختار التغاضي، لا ضعفاً، ولكن حكمةً ومبدأً راسخاً، حتى يصل الجهل والجور إلى حد لا يُطاق.

ليس التغاضي هنا استسلاماً أو جبناً، بل هو قوة هادئة تُشبه النهر العميق الذي يبدو ساكناً على السطح، بينما تياراته الجارفة تجري في الأعماق. إنه اختيار واعٍ لعدم استنزاف الروح في معارك تافهة، ولحفظ طاقة القلب للقتال الحقيقي عندما يستفحل الداء .
المبدأ الذي لا يتزعزع إلا حين يتمادى الجاهل، حين يتعدى الأذى كل حدود، وحين يصير الصبر ليس فضيلة، بل خيانة للذات وللكرامة. عندها فقط، يتحول الرماد إلى لهب، والصمت إلى صرخة مدوية تُعيد ترسيم الحدود التي انتهكها المتجبر.

لكن، ألا يخطئ من يظن أن هذا القلب الصابر، المُتغاضي، هو قلب من حجر بلا إحساس؟! أو أن صاحبه ملكٌ من عالم آخر، بلا ضعف أو حاجة؟! كلا، ألف كلا! إنه قلب إنسان، بالضبط مثل قلوبكم. قلب يمتلئ بالدم الدافق، بالحب والكره، بالرضا والسخط، بالأمل واليأس. قلب “يطايعني حيناً ويخذلني في بعض أحياني”.
هذه هي حقيقته المركبة، الجميلة والمؤلمة في آن واحد. إنه ليس آلة صلبة، بل كيان رقيق يتأرجح بين قوة الإرادة في كبح جماح الغضب، وضعف الطبيعة البشرية تحت وطأة الألم المتكرر. هذه الثنائية هي جوهر إنسانيتنا : القدرة على التحمل الهائلة، والهشاشة التي لا تُخجل.

فهم هذه الهشاشة ليس عيباً، بل هو بصيرة. إن الاعتراف بأن القلب قد “يخذلنا” أحياناً، بأن الصبر قد ينفد، وبأن الغضب المكبوت قد يجد فجوة لينفجر، هو فهم لطبيعتنا المركبة. إنه تذكير بأننا لسنا ملائكة معصومين، ولا شياطين متمردين، بل بشرٌ يحملون في صدورهم عالماً من التناقضات : حلمٌ يدفعنا للتسامح، وغيظٌ يدفعنا للرد، وصبرٌ يتحدى الجراح، وخذلانٌ يذكرنا بحدود طاقتنا.

لذلك، حين ترى إنساناً يختار الصمت والتغاضي، فلا تظن قلبه حجراً. ولا تستهن بنار الغيظ التي قد يخبئها تحت رماد الهدوء. وتذكر أنه في اللحظة التي يتمادى فيها الجاهل الجاني، قد يتحول ذلك الصبر الطويل إلى عاصفة لا تُرد، ليس انتقاماً، بل استعادة لكرامةٍ انتهكت، وحدودٍ تُرسم من جديد. فهذا القلب الإنساني، رغم هشاشته وقدرته على الخذلان أحياناً، يظل معجزة من معجزات الوجود : قادراً على حمل جمر الغضب سنوات، وقادراً أيضاً على تحويله إلى نور يُضيء درب الكرامة حين يحين الوقت. إنه رحلة متواصلة بين الرماد واللهب، بين كبح الدموع وسكبها، بين الصمت الذي يبني والكلمة التي تُحرر … رحلة القلب البشري الأبدية في مدار الصبر والغضب .

سنلتقى إن كان فى العمر بقيه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى