أيمن شاكر يكتب : حصون الصمت : عندما يصبح الرجل قلعة محاصرة

بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
نائب رئيس قسم الأدب ✍🏻
هو يقف أمامك ، كتلة صامتة من الشموخ المزيف ، تلمح السواد تحت عينيه ، ندوب الليالي الطوال التي يقاتل فيها شياطين لا يعرفها أحد. تلاحظ انحناءة ظهره ، وكأنه يحمل جبلاً من الهموم غير المنطوقة ، وربما خصلات بيضاء مبكرة تلوح في شعره كأعلام استسلام مبكر للحياة ، في داخله ، مئات الأسهم المغروسة ، كل سهم همّ ، كل سهم فشل متخيل ، كل سهم مسؤولية ثقيلة ، كل سهم ألم مُكبَت .
لكن ما الذي تسمعه ؟ جملة واحدة ، مختزلة ، مبتسرة : “أنا زي الفل.. أنت عامل إيه ؟”.
وفي نهاية المطاف ، يعود إلى قوقعته ، إلى “الجلسه” اليومية الصامتة ، حيث لا يعبر عن أعماقه ، ولا يعرف أحد حقيقة المعركة الدائرة وراء جدران صمته.
هذه الظاهرة ليست مجرد صفة فردية ، بل هي صورة معقدة من صور الوحدة الذكورية التي يفرضها مجتمع يقدّس “الرجل الحديدي”. مجتمع يربط الرجولة بالقوة المطلقة، وبالقدرة على التحمل اللامتناهي ، وبمنع أي مظهر من مظاهر “الضعف”، الذي يُختزل خطأً في التعبير عن المشاعر أو طلب المساعدة .
الرجل هنا ليس مجرد صامت ؛ إنه سجين في حصن بناه المجتمع بيده ، ثم أوكل إليه حراسته حتى الموت . حصن اسمه “الرجولة التقليدية”.
ثمن هذا الصمت باهظ . إنه ليس مجرد كبت للكلمات ، بل هو كبت للحياة نفسها ، تلك الأسهم في القلب لا تبقى ساكنة ؛ إنها تسبب نزيفاً داخلياً بطيئاً ، يظهر على شكل إرهاق مزمن ، وقلق متواصل ، وغضب مكبوت قد ينفجر في اللحظات الأقل توقعاً ، أو يتحول إلى عدوانية صامتة تجاه الذات أو الآخرين . السواد تحت العينين ، وانحناءة الظهر ، والشيب المبكر ، كلها ليست مجرد علامات جمالية ، بل هي شهادات حية على الحمل النفسي الجاثم ، والأخطر هو العزلة.
فالصمت يبني جدراناً عالية بين الرجل وأحبائه. كيف لزوجته أن تفهم ما لم يقله ؟
كيف لأبنائه أن يعرفوا أباً لا يعرفون معاركه ؟ كيف لأصدقائه أن يمدوا يد العون لمشكلة لا يدركون وجودها ؟ تلك ” الجلسه ” اليومية الصامتة هي قمة جبل الجليد ، تحتها عالم من الأسئلة المحبوسة ، والصراخ المختنق ، والألم الذي لا يجد مخرجاً.
المأساة تكمن في أن هذا الصمت يُقدم غالباً على أنه شرف ، وقوة تحمّل.
” الرجل مش بيتشكى” ، ” الرجل بيتحمل “. هذه العبارات ليست مديحاً ؛ إنها شهادات وفاة بطيئة للروح . إنها تحويل المعاناة الإنسانية الطبيعية إلى وسام شرف وهمي ، بينما الحقيقة هي أن الصمت في مواجهة الألم ليس بطولة ، بل هو هزيمة للذات وللعلاقات الإنسانية الأساسية.
فكروا للحظة في الثقل الذي يحمله هذا الرجل الصامت. مسؤوليات العمل التي لا تنتهي ، الضغوط المالية التي لا ترحم ، التوقعات المجتمعية والعائلية الجاثمة ، الخوف من الفشل ، القلق على المستقبل ، ربما آلاماً نفسية أو جسدية لا يجرؤ على الاعتراف بها خشية أن تُسقط صورته كـ “الرجل القوي”. يحمل كل هذا بمفرده ، لأن المجتمع أقنعه أن طلب المساعدة ، أو مجرد البوح بأنه “ليس على ما يرام”، هو انتقاص من رجولته. فيتحول إلى جزيرة معزولة في محيط من الناس ، يبتسم للجميع وهو ينزف من الداخل.
كسر حصون هذا الصمت ليس سهلاً ، لكنه ضرورة إنسانية حيوية. الأمر يتطلب تغييراً عميقاً في ثقافتنا عن الرجولة. نحتاج إلى إعادة تعريف القوة لتشمل الشجاعة النفسية في مواجهة الضعف ، في الاعتراف بالتعب ، في طلب الدعم. نحتاج إلى خلق مساحات آمنة ، بعيداً عن الأحكام ، حيث يستطيع الرجل أن يقول “أنا متألم”، “أنا خائف”، “أنا محتاج مساعدة” دون أن يشعر أن رجولته على المحك .
نحتاج إلى تشجيع الحوار العاطفي الصادق منذ الطفولة ، وتعليم أبنائنا أن المشاعر الإنسانية من حزن وخوف وقلق هي طبيعة بشرية ، وليست عيباً يخص جنساً دون آخر . الأصدقاء ، الأزواج ، العائلات ، عليهم أن يفتحوا قلوبهم وآذانهم ، ليس فقط لسماع الكلمات ، بل لملاحظة الصمت الثقيل ، للسؤال بعمق ” كيف حالك حقاً ؟ ” والإصرار على الإجابة ، وخلق جو من القبول غير المشروط.
فهل نستمر في تقديس حصن الصمت ، ونحن نرى ما يفعله بأرواح الرجال ؟ أم نبدأ في هدم جدرانه ، لبنة لبنة ، بفهم أكثر إنسانية ، واستماع أكثر تعاطفاً ، وقبول أكثر اتساعاً ؟ لأن ذلك الرجل الذي يقول “أنا على ما يرام ” بينما قلبه مثقل بالأسهم ، ليس بحاجة إلى مجرد كلمات طمأنة سطحية. هو بحاجة إلى أن نعترف بثقل صمته ، إلى أن نمنحه الإذن بأن يكون إنساناً قبل أن يكون “رَجُلاً” ، وبأن نخلق له الجسر الذي يعبر من فوقه من قلاع العزلة إلى شواطئ التواصل والشفاء.
لأن الصمت ، مهما بدا قوياً ، لا يشفي الجروح ، بل يدفن الألم حياً ليأكل الروح من الداخل. ولأن أعظم قوة قد يمتلكها إنسان هي الشجاعة أن يقول : قلبي مثقل ، وأنا بحاجة إلى من يستمع .
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه