اخبار اليوم

أيمن شاكر يكتب : في غزة ، حيث تُقاس القوة بعدد الجراح التي تستطيع حملها دون أن تنهار

فلسطين أبيه

بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
نائب رئيس قسم الأدب ✍🏻

في غرفة الإنعاش بمستشفى ناصر الطبي ، حيث تُختزن آلام غزة في زوايا الإسمنت الباردة ، وقفت الدكتورة ” آلاء النجار ” تُحصي أنفاس ابنها العاشر “آدم” الواهنة ، بينما تُخفي تحت معطفها الأبيض تسعة شهادات وفاةٍ لأطفالها.
لم تكن مجرد طبيبة تُداوي جراح الحرب ، بل أمٌّ تُرقّع أشلاء روحها بضمادات لا تكفي لوقف النزيف.
الغارة التي قصفت منزلها في مايو 2025 لم تُسقط الجدران وحدها ، بل مزّقت حبال قلبٍ كان يُمسك بتسعة أرواحٍ تتراقص بين أحضانها كل ليلة.

أطفالٌ تسعة : يحيى الذي كان يحلم بدراجة ، ركان الذي جمع أزرارًا ملونة لصنع قلادة لوالدته ، إيف التي حفظت قصيدة عن السلام لتلقيها في المدرسة … أسماءٌ تحوّلت بين ليلة وضحاها إلى أرقام في سجلّ ضحايا لم يُغلق منذ عقود .
حتى الزوج ، الدكتور حمدي ، الذي نجا بأعجوبة من القصف ، صار جسدًا بلا ذاكرة في غيبوبة طويلة .
تقول آلاء بصوتٍ يخترقه السعال الدموي :
” أشعر أن الحرب اخترقت جسدي مرتين : مرة حين سلبت أطفالي ، ومرة حين تركتني حية لأرى كل هذا العجز “.

كيف تُمسك امرأة بتسعة خيوط حياة وتدفنهم في قبضة يد واحدة ؟ في غزة ، حيث تُقاس القوة بعدد الجراح التي تستطيع حملها دون أن تنهار ، تصبح آلاء مجازًا عن أمٍّ تلد الأمل من رحم الكارثة. هي التي أنقذت مئات الأطفال خلال سنوات الحرب ، تُجبر اليوم على توقيع شهادات وفاة أبنائها في نفس الغرفة التي كانت تُجري فيها عمليات الإنعاش.
حتى دموعها صارت جزءًا من بروتوكول العلاج : تبكي بينما تُنظّف جروح طفلٍ يشبه يحيى ، ثم تمسح الدم عن يديها لتُمسك هاتفًا تُخبر عائلتها بأن “آدم” ما زال ينبض.

هذه ليست قصة حزنٍ عابر ، بل سردٌ لـ” إبادة منهجية ” تُحوّل الأمهات إلى شواهد تحمل أسماء أطفالها . منذ 2023 ، ارتفع عدد أيتام غزة إلى أكثر من 80 ألفًا ، بينما تُرغم أمهات مثل آلاء على اختيار أيّ الألمين أهون : أن تفقد طفلًا تحت القصف ، أم تشهد عليه يموت جوعًا في حضنها.

حتى المستشفيات صارت ساحات انتقام : فالقنابل تُلاحق الأطباء إلى مخابئهم ، وتسرق من الأمهات آخر ما تمسكن به وهو حقّ البكاء على جثث أطفالهن.

لكن قلب آلاء ، رغم تسعة ثقوبٍ نُحتت فيه ، ما زال ينبض بإيقاعٍ يرفض الاستسلام . في الليل ، حين يخيم صمتٌ ثقيل على أجنحة المستشفى ، تهمس لأطفالها الغائبين :
” سأجعل من كل طفلٍ أنقذه وطنًا تعودون إليه “. ربما هذا ما يفسر استمرارها في العمل رغم كل شيء : ففي عيون الأطفال الجرحى ترى بصمات أبنائها ، وفي كل ضماد تلفّه حول جرحٍ تستعيد ذاكرة لمسة يد صغيرة كانت تطلب الحنان.

اليوم ، بينما تُحاول ” آلاء ” إخفاء رعشة يديها أثناء إجراء عملية جراحية لطفلٍ في العاشرة ، تدرك أن الحرب لم تنتصر بعد . فالأمهات في غزة ينسجن من أشلاء القنابل سجادًا من الأسئلة : كم قلبًا يلزم لتحمل هذا العذاب ؟
كم دمعةً تملأ محيطًا من الظلم ؟
لكنهن يعرفن جيدًا أن الجواب الوحيد هو الاستمرار في المشي فوق الجمر ، حاملاتٍ أسماء أطفالهن كشموعٍ تُضيء طريقًا لم يعد يُؤدي إلا إلى المجهول.

وفي النهاية ، تبقى “آلاء” تُعيد تعريف معنى الانتصار كل يوم : أن تزرع وردة في فوهة مدفع ، أن تُمسك بيد طفلٍ يحتضر وتخبره أن الموت لن يكون النهاية … وأن تُحوّل تسعة قبورٍ إلى تسعة أعلام تُرفع في سماء غزة ، صارخةً للعالم :
” هنا كانت أحلام أطفالنا .. هنا لا تزال الحياة تُولد من تحت الرماد “.

سنلتقى إن كان فى العمر بقيه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى