اخبار اليوم

أيمن شاكر يكتب : قد تكتشف أنَّ أعظم انتصاراتك لم تكن في ما حققته ، بل في ما نجوتَ منه وأنت تحسبه خيرًا

بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
نائب رئيس قسم الأدب ✍🏻

ألتفتُ خلفي أحيانًا، لا بدافع الحنين، بل بدافع الاستجواب الوجوديّ. أتوقّف عند محطّاتٍ ظننتُها في الماضي نهاياتي المُبكّرة، أو مفترق طرقٍ ضاع فيه مساري إلى الأبد. أسترجع علاقةً مزّقتني ثمّ تعلّقتُ بها كالغريق بحطام سفينته، خائفةً من المجهول أكثرَ من خوفها من الغرق. أتذكّر فرصةً أمسكتُ بها بكلتا يديّ، مُقتنعًا أنها البوّابة الذهبية لمستقبلي، لِأكتشفَ لاحقًا أنها كانت قفصًا مذهّبًا.

فنظرةٌ واحدةٌ للخلف، بصدقٍ تكفيني لأدرك حقيقةً مذهلةً : لقد نجوتُ ! نجوتُ مما كُنتُ، بكلّ براءةٍ أو غباءٍ أو يأس، أُحصنه في قائمة “الخيرات” التي لا تُعوّض!

الغريب في الأمر أنَّ تلك الأشياء التي خلّصتني الحياةُ منها ، غالبًا رغمًا عنّي وبعد صراعٍ مرير ، كانت تبدو لي في لحظتها “خيرًا” لا غنى عنه. كنا نتمسّك بها لأنّها كانت تُشكّل واقعنا المُألَف، أو لأنّنا خُدعنا بمظهرها البرّاق، أو لأنّ الخوف من الفراغ كان أكبر من إدراكنا لسمّها البطيء. كنا نُبرر لنفسنا السّم الذي نرتشفه يوميًا، مُسمّينه دواءً أو عشقًا أو قدرًا محتومًا.
كم من وظيفةٍ خانقةٍ ظننّاها “استقرارًا ؟
وكم من حبٍّ سامٍّ وصفناه “جنونًا” ؟
وكم من طريقٍ مسدودٍ اعتبرناه “المسار الوحيد”؟ العقل البشريّ بارعٌ في نسج السّرديات التي تُهدّئ روعنا وتُبرر بقاءنا في مستنقعاتٍ تبدو لنا حدائق غنّاء!

ثمّ تأتي الحياة، بقسوتها الرحيمة أحيانًا، فتُزيل ذلك “الخير” المُزيّف من طريقنا. ربّما بفشلٍ مُذلّ، أو بخسارةٍ موجعة، أو بمفارقةٍ لا تُحتمل. ننهار. نظنّ أنَّ العالم انتهى، أنَّ نور الشمس لن يشرق علينا أبدًا. ننوح على ذلك “الخير” الضائع، ونلعن الأقدار التي سلبتنا إيّاه. الألمُ حقيقيّ، والدموعُ حارقة، والشعورُ بالضياع يلفّنا كضبابٍ كثيف. في خضمّ هذه العاصفة، يصعب علينا تصديق أنَّ ما نندبه هو في الحقيقة طوق النجاة الذي خلّصتنا منه الأقدار!

لكنَّ الزمن، ذلك الحكيم الصامت، يبدأ بعمله. تمرّ الأيام، تهدأ العاصفة قليلًا، ونلتفتُ… تلك النظرة الواحدة للخلف! فجأةً، وبوضوحٍ مذهل، نرى المشهدَ كاملًا. نرى كيف كانت تلك الوظيفة تُحطّم روحنا وتقتل إبداعنا. نرى كيف كان ذلك الحبّ يستنزف طاقتنا ويشوّه صورتنا عن أنفسنا. نرى كيف كان ذلك الطريق المسدود يحجب عنّا دروبًا أخرى أكثر خضرةً وإشراقًا. نرى السُّمَّ الذي كنّا نعتاش عليه! عندها فقط يتحوّل الألمُ إلى دهشة، ثمّ إلى امتنانٍ صامت. ندرك أنَّ ما ظنناه كارثةً كان في الحقيقة خلاصًا ، أنَّ ما بكيناه كخيرٍ ضائع كان وهمًا خطيرًا كاد أن يودي بنا.

النجاةُ ليست دائمًا هروبًا من خطرٍ واضحٍ كالنار أو السّيول. أحيانًا تكون النجاةُ خلاصًا من سرابٍ جميلٍ أوقنك بأنّه واحة ! خلاصًا من قيدٍ لطيفٍ ظننتَه حُليًّا.
فالنظر للخلف ليس لتأنيب الذات على “غباء” الماضي، بل هو تأكيدٌ على قوّة الغريزة العميقة التي تُصارع للبقاء حتى عندما يخدعنا وعينا. هو شهادةٌ على أنَّ الحياة، رغم قسوتها الظاهرة، قد تُزيح عنّا أحجارًا كنا نحسبها جواهر، لتُفسحَ المجال أمام نورٍ حقيقيٍّ كُنّا نعمى عن رؤيته.

لذلك، لا تخف من تلك النظرة للخلف عندما تجد القوة. قد تكتشف أنَّ أعظم انتصاراتك لم تكن في ما حققته، بل في ما نجوتَ منه وأنت تحسبه خيرًا.
فالخيطُ الفاصل بين السُّمِّ والدواء قد يكون مجرّد نظرةٍ واحدةٍ للخلف تُريك أنَّ ما ظننتَه شرًّا مطلقًا كان خلاصًا ، وما ظننتَه خيرًا مطلقًا كان هلاكًا مُبطّنًا. والنجاةُ ليست في الماضي المُتجاوز، بل في عينَين تريانِ الوهمَ أخيرًا، وقلبٍ يتعلّمُ أن يشكرَ جرحَ الخلاص .

سنلتقى إن كان فى العمر بقيه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى