مشاهير

أيمن شاكر يكتب : مخطّط التدمير المتبادل : قراءة في الاستراتيجيات الخفية لإيران وإسرائيل بعد ضربة المفاعلات

بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب ✍🏻

تمر الساعة الراهنة في الشرق الأوسط بلحظة مصيرية تشبه الوقوف على حافة بركان على وشك الثوران ، حيث تتداخل تحركات القوى الكبرى بخيوط معقدة من المصالح والمخاوف. المشهد الحالي يُجسّد مفارقة عجيبة :
فبينما تتصاعد نبرة التهديدات الإيرانية بإغلاق مضيق هرمز ، تظهر إشارات متضافرة من واشنطن وتل أبيب تشي برغبة مفاجئة في كبح التصعيد. هذا التناقض الظاهر يخفي تحته معادلة إستراتيجية دقيقة ، حيث تمسك كل طرف بورقة ضغط قد تغير مسار الصراع إلى الأبد.

لنستعرض بدقة التطورات المتسارعة التي شهدتها الساعات الأخيرة ، بدءاً من القرار البرلماني الإيراني الذي أقرّ بالإجماع إغلاق المضيق ، ليجد نفسه الآن أمام مجلس الأمن الإيراني كمرحلة نهائية قبل التنفيذ. هذا القرار ليس مجرد ورقة تفاوضية عابرة ، بل هو سلاح ذو حدين قد يشعل أزمة طاقة عالمية غير مسبوقة .
الدليل الملموس على جدية التهديد ظهر فوراً في تحركات السوق العالمية : ناقلات النفط العملاقة غيرت مساراتها فجأة ، وشركات الشحن الكبرى أصدرت تعليمات طارئة بتجنب الممر المائي الحيوي ، في مؤشر واضح أن المجتمع الدولي يأخذ السيناريو الإيراني على محمل الجد.

لكن المفارقة تكمن في رد الفعل الإسرائيلي الأمريكي المتزامن مع هذه التهديدات. فمن قلب تل أبيب ، حيث كان الخطاب الرسمي حتى الأمس القريب يرفع سقف المواجهة ، خرجت تقارير صحفية عبر “يديعوت أحرونوت” تفيد باستعداد إسرائيل لإنهاء الحرب خلال أيام .

الأكثر إثارة أن المصادر نفسها أكدت أن الحكومة الإسرائيلية ستقبل فوراً بأي مبادرة لوقف إطلاق النار تأتي من طهران. هذا التحول الدراماتيكي لا يمكن فهمه بمعزل عن الصدمة التي أحدثتها الصواريخ الإيرانية المتطورة التي اخترقت نظم الدفاع الإسرائيلية وألحقت أضراراً بمليارات الدولارات ، كاشفة هشاشة ما كان يُصوّر على أنه “درع منيع”.

التحليل المتعمق لأوضاع الأطراف الثلاثة يكشف أن كل منها يمر بلحظة مفصلية تدفعه نحو قبول الحل التفاوضي :

إسرائيل التي قادت حملة التصعيد تدرك الآن أنها حققت الحد الأقصى الممكن من المكاسب. الضربات التي وجهتها للمنشآت النووية الإيرانية – وإن كانت محدودة الأثر – قدمت لنتنياهو “نصراً إعلامياً” يحتاجه لتحويل الأنظار عن مشاكله القانونية الداخلية. لكن استمرار الحرب أصبح يشكل تهديداً وجودياً للاقتصاد الإسرائيلي، خاصة بعد أن كشفت الضربات الإيرانية الأخيرة عن ثغرات خطيرة في منظومة الدفاع. السيناريو الكابوسي لتل أبيب هو تصعيد يؤدي إلى إغلاق مضيق هرمز ، ما سيرفع أسعار النفط إلى مستويات قياسية ويخنق الاقتصاد الإسرائيلي الذي يعتمد على الاستيراد.

أما الولايات المتحدة ، فتكشف الضربة الأخيرة على المنشآت النووية الإيرانية عن لعبة سياسية محكمة. فمن ناحية ، حقق ترامب هدفين رئيسيين : إرضاء اللوبي الصهيوني الذي يمول حملاته الانتخابية ، وتقديم صورة “الرئيس الحازم” لناخبيه قبل الانتخابات. لكن الأدلة تشير إلى أن الضربة كانت مدروسة بدقة لتجنب حرب شاملة: تقارير “نيويورك تايمز” تؤكد أن منشأة فوردو النووية لم تُدمر ، بل تضررت جزئياً فقط. الأكثر أهمية ، التسريبات عن اتصالات أمريكية سرية مع إيران قبل الضربة ، حيث أكدت واشنطن لطهران أن الضربات ستكون محدودة النطاق وليست مقدمة لغزو أو تغيير نظام. هذه التلميحات تفسر لماذا لم تفقد إيران مخزونها النووي – فقد نقلته مسبقاً من المواقع المستهدفة.

هنا تكمن المفارقة الكبرى : إيران التي ظهرت كضحية للعدوان ، قد تكون المستفيد الأكبر في هذه المعادلة.
فمن جهة ، نجحت في تحويل الهجوم إلى فرصة لإظهار قوتها العسكرية عبر ضربات دقيقة داخل العمق الإسرائيلي ، وهو إنجاز استراتيجي يعزز مكانتها الإقليمية. ومن جهة أخرى ، حافظت على جوهر برنامجها النووي بنقل المواد المخصبة قبل الهجوم. التحدي الآن أمام طهران هو تحويل هذا “الانتصار المعنوي” إلى مكاسب ملموسة عبر المفاوضات ، خاصة مع وجود ظهير دولي تمثل في مشروع القرار المشترك الذي قدمته روسيا والصين وباكستان في مجلس الأمن لدعم وقف إطلاق النار.

لكن السؤال المحوري : هل تمتلك القيادة الإيرانية المرونة الكافية لقبول الحل الدبلوماسي ؟

الإجابة تعتمد على توازن دقيق بين الاعتبارات الداخلية والخارجية. داخلياً، الوحدة الوطنية التي تشهدها إيران بعد الضربات الأمريكية هي رصيد ثمين للنظام، لكن استمرار الحرب يهدد بانهيار اقتصادي مع تفاقم العقوبات. خارجياً، إغلاق مضيق هرمز سيعطي إيران ورقة ضغط هائلة، لكنه قد يحول التحالف الدولي ضدها إلى جبهة موحدة تضم حتى الدول المحايدة التي ستتضرر من أزمة الطاقة.

المخرج الأمثل لكل الأطراف قد يكون في “مسرحية نهاية” مدبرة : تطلق إيران ضربة صاروخية محدودة القوة ضد أهداف إسرائيلية غير حيوية ، تسمح لها بالادعاء أنها “الطرف الذي سدد الضربة الأخيرة”. بعدها تعلن قبولها بمبادرة وقف إطلاق النار التي أقرها مجلس الأمن ، لتدخل في مفاوضات نووية جديدة من موقع القوة. هذا السيناريو يحقق لإسرائيل صورة “الردع” ، ولأمريكا “احتواء البرنامج النووي”، ولإيران “الصمود والرد القوي”.

لكن التاريخ يعلمنا أن لحظات التأزم الكبرى لا تحكمها الحسابات العقلانية وحدها. شبح الخطأ الحسابي ، أو رغبة طرف في “الضربة القاضية”، أو حتى حادث عابر على حدود متوترة – كلها شرارات قد تشعل حريقاً لا يمكن إخماده. المنطقة اليوم على حافة الهاوية ، حيث قد يقرر قائد واحد مصير ملايين البشر. في هذه اللحظة التي تحبس فيها الأمم أنفاسها ، يتجلى السؤال الأعمق :
هل تكفي إرادة ثلاثة قادة لوقف آلة الحرب الجهنمية ، أم أن غريزة التدمير الكامنة في البشر أقوى من كل حكمة ؟

اليوم ، بين أطلال المنشآت المدمرة ودخان الصواريخ المنطلقة ، تكمن فرصة أخيرة لكتابة نهاية مختلفة لهذه المأساة .
نهاية لا ينتصر فيها طرف على آخر ، بل ينتصر فيها العقل على الجنون ، والحياة على الموت . لكن الفرص التاريخية كالغيوم العابرة – إن لم تُمسك بها الأيدي الحكيمة في لحظتها المصيرية ، تتحول إلى دموع لا تجدي على أطلال الحضارات .

سنلتقى إن كان فى العمر بقيه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى