مشاهير

أيمن شاكر يكتب : وردة غزة : طفولة تحترق تحت أنقاض الصمت العالمى

بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
نائب رئيس قسم الأدب ✍🏻

في ظلمة الليل الذي اخترقته صواريخُ الاحتلال ، تحوَّلت مدرسةُ فهمي الجرجاوي بغزة إلى جحيم مفتوح .
أربعة صواريخ حارقة أُلقيت على مبنى كان يجب أن يكون ملاذاً للتعليم والأمان ، فحوّلته إلى مقبرة جماعية. بين الركام المُدخّن ، ولدت قصةٌ تختصر مأساةَ شعبٍ بكامله: طفلةٌ صغيرة تُدعى { وُرْد جلال الشيخ خليل } ، ناجيةٌ وحيدةٌ بين جثث أمها وإخوتها وأفراد عائلتها ، و 11 شهيداً من عائلة واحدة ، ونحو 30 شهيداً ومصاباً ، نصفهم من النساء والأطفال.
فلم تكن ورد وحدها من هربت من النيران ؛ بل هربت معها طفولةٌ بكاملها ، وحكايةٌ عن عالمٍ يغيب عنه العدل والإنسانية.

المشهد الذي التقطته الكاميرات لم يكن مجرد لقطة عابرة ؛ كان صرخةً صامتةً تُلخِّص فظاعةَ الحرب . طفلةٌ ترتعد تحت سماء مليئة بالدخان ، تبحث عن زاويةٍ آمنةٍ بين الجدران المُنهارة ، تخطو فوق بقايا أحلامها التي تحوّلت إلى رماد .

النار تلاحقها ، تلسع جسدها الصغير ، لكن صراخها يضيع في ضجيج الانفجارات . العالم يشاهد ، والحكومات تصمت ، والإعلام يختزل المأساة في “أخبار عابرة”. أما هي ، فتبقى واقفةً كشاهدٍ حيٍّ على جريمةٍ لا يُعاقب مُرتكبوها.

الحرب في غزة ليست حرباً على الصواريخ أو الأنفاق ؛ إنها حربٌ على الإنسانية نفسها. حين تُستهدف المدارس ، وتُباد العائلات ، ويُترك الأطفال ليواجهوا الموت وحدهم ، يصبح السؤال : أي خطرٍ تشكله ورد البالغة من العمر بضع سنوات على أمن الكيان المحتل ؟
الجواب الوحيد هو أنها تشكل خطراً على روايتهم المزيفة، فوجودها كشاهدةٍ حيةٍ يفضح وحشيةً لا يمكن تبريرها.
كل جريمة تُرتكب في غزة تُذكِّر العالم بأن “الصراع” هنا ليس معقداً كما يُصوَّر ، بل هو ببساطة إبادةٌ بطيئةٌ لشعبٍ تحت نيران التطهير العرقي.

وردة غزة هذه ليست الأولى ولن تكون الأخيرة . قبلها ، كان هناك محمد الدرة ، وإبراهيم المغيربي ، وآلاف الأطفال الذين حوّلتهم آلة الحرب الإسرائيلية إلى أرقام في تقارير الأمم المتحدة . لكن كل وردة تحترق تُعيد إحياء ذاكرة من سبقوها ، وتُثبت أن الصمود هنا ليس خياراً ، بل قدراً مفروضاً على من وُلدوا تحت القصف. طفولة ورد لم تُسرق بانفجار الصواريخ فقط ، بل سُرقَت حين قبل العالم أن يُغمض عينيه عن مشهد إطلاق النار على طفلةٍ تهرب من الموت.

اليوم ، تتحول ورد إلى رمزٍ للجراح التي لا تُندمل ، وللصوت الذي يُحاولون إسكاته. هي ليست مجرد ضحية ، بل مرآةٌ تعكس فشلَ الضمير العالمي . ففي الوقت الذي تُعلن فيه دولٌ عظمى دعمها ” للحق في الدفاع عن النفس “، تُهمل حقيقة أن الفلسطيني لا يملك إلا جسده ليدافع به عن حقه في الوجود. النيران التي التهمت عائلة ورد هي نفسها التي تلتهم كل يوم شرعيةَ من يتحدثون عن حقوق الإنسان ويصمتون عن جرائم غزة.

في النهاية ، تبقى الصورة الأكثر قسوةً هي تلك التي تُظهر الطفلةَ الوحيدة تائهةً بين الركام . لا تحتاج إلى تعليقٍ سياسي أو تحليلٍ إستراتيجي ؛ تكفي نظرةٌ إلى عينيها لترى كل الأسئلة التي لا إجابة عنها :
لماذا أنا هنا ؟
أين ذهبوا جميعاً ؟
ولماذا لا يأتي أحد لينقذني ؟
ربما لن تصل ورد إلى إجابات ، لكن صرختها ستظل معلَّقة في ذاكرة التاريخ ، شاهدةً على زمنٍ خان فيه البشرُ إنسانيتهم ، وفضَّلوا الصمت على مواجهة الوحش .
فهل من مستمع ؟

سنلتقى إن كان فى العمر بقيه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى