أيمن شاكر يكتب : وكلّ الذين رحلوا ظلّت وجوههم في أعيننا

بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
نائب رئيس قسم الأدب ✍🏻
في زوايا الذاكرة ، حيث تُخبَّأ اللحظات الهاربة ، تبقى الوجوهُ كالنجوم المُعلَّقة في سماء الليل.
لا يمحوها الزمن ، ولا يذروها تراب القبور .
إنها تُضيء في الظلام ، تُذكِّرنا بأنَّ الرحيل ليس نهاية ، بل تحوُّلٌ صامتٌ من عالمِ اللّمس إلى عالمِ الوجدان .
كلّ الذين رحلوا تركوا خلفهم أكثر من جسدٍ هامد ؛ تركوا شظايا من الضوء تتسلل إلى عيوننا كلما أغمضناها ، كأنما الموتُ مجرد حاجزٍ زجاجيٍّ نرى من خلاله وجوهَهم ، نسمع ضحكاتهم ، ونلمس ظلَّ وجودهم الذي صار جزءًا من كينونتنا.
حين تحدَّث الشاعر السوري ” سعد الله مقصود ” عن احتضاره ، رسم في مخيلته وجوهَ من أحبّهم ، وتمنى أن يكونوا بجانبه ليُغمض عينيه للمرة الأخيرة .
فقال : ” لم أفكر إلا في من صرفت حياتي معهم ، أريدهم أن يكونوا بجانبي كي أدخل العدم مطمئنًا ” .
هذه الرغبة ليست مجرد حنين ، بل إدراكٌ عميقٌ بأنَّ الوجوهَ التي نحبها تُصبح جسرًا بيننا وبين الخلود . حتى عندما يغيب الجسد ، تظلُّ الذاكرةُ تُعيد تشكيله كلَّ ليلةٍ في أحلامنا ، وكلَّ صباحٍ في تفاصيلٍ تذكرنا به .
وكما كتبت ” سيفتلانا أليكسيفتش ” في وصف الموتى : ” على وجه الميت دهشة غريبة ، كأنه لا يصدق أنه مات ” . تلك الدهشة نفسها نعيشها نحن ، فلا نصدق أن الوجوهَ التي نعرفها صارت ذكرياتٍ نُمسك بها كالهواء.
الفيلسوف الروسي ” ليو تولستوي ” ، بعد أن حقق الشهرة والثراء ، وجد نفسه غارقًا في سؤال الزوال : ” كل شيء يتبدّد ، فما قيمةُ ما نبنيه ؟ “. لكنه أدرك لاحقًا أنَّ القيمةَ الحقيقية ليست في بقاء الأعمال ، بل في بقاء الأثر الذي نتركه في قلوب الآخرين .
فهذا الأثر هو ما يجعل الوجوهَ لا تغيب ، حتى لو تحوَّل الجسدُ إلى تراب . فالحبُّ ، كالوشم ، ينزفُ ألوانه في الروح ، ولا يُزال إلا بانتهاء الحياة نفسها .
ففي الثقافات والأديان ، وُجدت محاولاتٌ لا حصرَ لها لترويض فكرة الفناء . الأديانُ وعدت بالحياة الآخرة ، والفلسفاتُ قدَّمت مفاهيمَ مثل ” الخلود الرمزي ” عبر الإرث الفكري أو الفنّي. غسان كنفاني ، في قصته ” قرار موجز ” ، جعل من موت البطل أساسًا لاستمرار النضال ، وكتب : “ليس المهم أن يموتَ أحدُنا ، المهم أن تستمرّوا” . هنا يصبح الموتُ بوابةً لاستمرارية الفكرة ، والوجهُ الغائبُ شعلةً تُضيء للآخرين طريقهم.
لكنَّ الذاكرةَ ليست دائمًا ملاذًا آمِنًا . أحيانًا ، تتحوَّل إلى سجنٍ للألم ، تلك المرأة التي كتبت عن وساوس الموت بعد فقدان والدها ، تصف كيف صارت كلُّ لحظةٍ تذكيرًا بالرحيل :
” أصبحت أعتبر كل حدث إشارةً لموتي ” .
هنا ، تتحوَّل الوجوهُ إلى أشباحٍ تلاحقنا ، وكأنما الفقدُ ليس حدثًا ماضويًا ، بل جرحٌ نزيفُه حاضرٌ في كلِّ نبضة.
لكن حتى في هذا الألم ، ثمة جمالٌ خفي . فالحزنُ على من رحلوا هو إثباتٌ على أنهم عاشوا داخلنا ، كما قال ” هاروكي موراكامي ” :
” الموت جزء من الحياة ” .
ربما لهذا نجد أنفسنا نتمسك بصورتهم في أذهاننا ، نروي قصصهم ، ونحاكي حركاتهم . إنها محاولةٌ لإنقاذهم من النسيان ، ولإنقاذ أنفسنا من الوحشة.
اليوم ، بين زحمة الحياة ، نلتقطُ صورًا رقميّةً ، نكتب رسائلَ لا تُرسل ، ونحتفظ بقطعٍ من ملابسهم . كلُّ هذه محاولاتٌ يائسةٌ لتحويل الذاكرةِ إلى شيءٍ ملموس ، لكن الحقيقةَ الأعمق هي أنَّ الوجوهَ التي رحلتْ لم تعد بحاجةٍ إلى إثبات وجودها.
فهي تعيشُ في طريقة ضحكتنا ، في نبرة صوتنا حين نغضب ، وفي ذلك الإحساس الغامض بأنهم يراقبوننا من مكانٍ ما ، ليس تحت التراب ، بل في تلك الزاوية الدافئة من القلب حيث لا يُسمح للغياب بالدخول.
وفي النهاية ، لن ينتصر الموتُ طالما بقيَ للحبِّ قوةٌ تُحرِّك الذاكرة . فكلُّ وجهٍ رحلَ هو شمعةٌ تُضيء دربنا ، وهمسةٌ تذكّرنا بأننا ، رغم كلِّ شيء، لسنا وحدنا.
وكما كتبت ” دي بوفوار ” في مذكراتها عن موت والدتها : ” حتى في الصمت ، تبقى أصواتُهم تُناغمُنا … كأنما الرحيلَ مجردُ حاجزٍ نتعلمُ مع الوقت أن نرى من خلاله ” .
اللهم أرحم من غابوا عنا فى الحياة الدنيا ، وإجمعنا بهم فى الفردوس الأعلى 🤲🏻
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه