الحذرُ قناعُ الوَجَع .. حين يتحوّلُ التجنُّبُ إلى فنٍّ للبقاء

بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
نائب رئيس قسم الأدب ✍🏻
في زوايا القلبِ تُخبَّأُ أشياء لا نستطيعُ لمسها، كالفراشاتِ المحنَّطة خلفَ زجاجٍ شفّاف.. نراها، نعرفُ أنها كانت حيّةً يومًا، لكنّنا نرفضُ الاعترافَ بأنّها لم تكُن لنا أبدًا. هكذا يبدأ التجنُّبُ: حائطٌ من الصمتِ يبنيهِ الخوفُ، لا الجفاء. نبتعدُ عن أشخاصٍ، أحلامٍ، أو حتى ذكرياتٍ، ليس لأنّنا لا نريدُها، بل لأنّنا نعرفُ -بغريزةٍ موجعة- أنّها أشبهُ بضوءِ القمر.. نمدُّ أيدينا إليه كلّ ليلةٍ، ونعودُ بأصابعَ فارغة.
الحياةُ تُعلّمنا أنَّ بعضَ الأشياءَ تُحتَرَقُ بمجرّدِ الاقترابِ منها. لهذا نرتدي ثوبَ الحذرِ، ونختارُ الانسحابَ بدلًا من مواجهةِ الانهيار. قد نبدو قساةً، غيرَ مبالين، لكنّ الحقيقةَ هي أنّنا ننزفُ في السرِّ .
نتجنّبُكِ لأنّ عينيكِ تشبهانِ البحرَ الذي أغرقَنا مرّاتٍ قبلَ أن نتعلمَ السباحة، نتجنّبُ أحلامًا لم نعدْ نجرؤ على مناداتها باسمها كي لا تتحوّلَ إلى شظايا. في هذا التجنُّبِ هروبٌ من موتٍ محتّم، لكنّه أيضًا إعلانٌ صامتٌ عن احترامٍ غريبٍ لهذه الأشياء.. نتركُها لأنّنا نُحبّها أكثرَ من أن نُفسدَها بمحاولةِ امتلاكها.
أحيانًا، يكونُ التجنُّبُ هو الذكاءُ العاطفيُّ الأخيرُ الذي نملكه. كالطفلِ الذي يخبئُ لعبتَه المفضّلةَ تحت الوسادةِ كي لا يكسرها، ندفنُ مشاعرنا في أعماقٍ لا يصلُ إليها أحد. نعرفُ أنَّ الكلماتَ ستُسيءُ إليها، وأنّ الاقترابَ سيفقدُها بهاءها، فنبترُ الأملَ قبلَ أن يبتكرَ طرقًا جديدةً لتعذيبنا. قد نُلامُ على برودنا، لكنّ أحدًا لا يرى السنواتِ التي احترقنا فيها كلّما حاولنا الإمساكَ بيدٍ لا تريدُنا.
في النهاية، لا يختارُ الإنسانُ التجنُّبَ إلا لأنّه جرّبَ السقوطَ مرّاتٍ كثيرة. هو لا يكرهُ الضوءَ، لكنّه يعرفُ أنّه لن يصلحَ كفانوسٍ لمن هم في العتمة. ربما نكونُ قد تعلمنا أنَّ بعضَ الحكاياتِ يجبُ أن تُروى من بعيد، كالنجوم.. نرفعُ أعيننا إليها كلّ ليلة، لكنّنا نعلمُ أنَّ لمسَها مستحيل. نتركُكِ لأنّكِ جميلةٌ أكثرَ من أن نُشوّهكِ بمحاولاتنا الفاشلة، نتركُ أحلامنا لأنّنا لا نستحقّها بعد، نتركُ الحياةَ أحيانًا لأنّنا نُحبّها أكثرَ من أن نُهينها بوجودنا.
وأخيراً … قد لا تفهمينَ اليومَ لماذا أبتعدُ، لكنّي أتمنّى لو ترينَ ما أراهُ أنا : يدٌ تمدّها نحوَ قلبي مثلُ يدٍ تمدّها نحوَ شمعةٍ في عاصفة.. إمّا أن تطفئها، أو تحترقَ هي. لهذا اخترتُ أن أحميكِ منّي، وأحمي نفسي منكِ. ربما يكونُ هذا هو الحبَّ الأكثرَ نقاءً : أن تترُكَ شيئًا لا تستطيعُ امتلاكه، كي لا تُحوّلهُ إلى مجرّدِ ذكرى مؤلمة .
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه