مشاهير

ليس كل من يحمل جرحاً يحوّله إلى مصباح يضيء للآخرين . فبعض القلوب تنطوي على ألمها كالصدفة المغلقة

بقلم الكاتب الصحفى : أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب ✍🏻

في خضمّ صخب الحياة وصراخها ، تبرز حقيقة لامعة كالنجوم في ظلمة الليل : إن أنقى القلوب ليست تلك التي لم تذق مرارة الألم ، بل تلك التي اغترفت من كأس المعاناة حتى الثمالة ، ثم انحنت لتسقي الآخرين من رحيق تعاطفها . فالحياة لا تخلو من الجراح ، لكن الفرق بين النفوس يكمن في قدرتها على تحويل ندوبها إلى بوابات للعطاء ، وجعل آلامها جسراً تعبر عليه قلوبٌ منهكة بحثاً عن الأمان.

الألم نار صامتة تحرق الأوهام التي تفصلنا عن بعضنا ، فتذيب الأقنعة والجدران ، وتكشف أننا خيوطٌ متشابكة في نسيج واحد ، كلما تألم واحدٌ منها، اهتزّ الكل . من يخوض غمار هذه التجربة يدرك أن المعاناة ليست لغته الخاصة ، بل هي همسةٌ مشتركة تفهمها الأرواح دون كلام . وهنا يولد ذلك الدافع العميق لحماية الآخرين ، كأنما يقول الجريح بصوته الداخلي : ” لن يكون هذا الظلام مصير أحدٍ بعد اليوم ” .

لكن هذه النقلة ليست قدراً محتوماً ، فليس كل من يحمل جرحاً يحوّله إلى مصباح يضيء للآخرين . بعض القلوب تنطوي على ألمها كالصدفة المغلقة ، فتتحول إلى سجون للكراهية ، ترى في كل لمسة شكاً ، وفي كل كلمة سكّيناً. أما القلب الطاهر ، فينصهر في بوتقة الألم ليصبح كالذهب الأصيل ، يحمل جراحه كشهادات فخرٍ لا كأثقال تُعيق خطاه. إنه يفهم أن الحب ليس منّةً تُمنح للمستحقين فقط ، بل واجبٌ إنساني نحو كل من يصرخ خلف أسوار الغربة والوحدة.

فالتاريخ يحفل بأناسٍ حوّلوا دموعهم إلى أنهار تروي العطاشى ، وجعلوا من سقوطهم سُلّماً يرفع الآخرين . أليس في كل من يضمّ يتيماً بعد أن ذاق مرارة الفراق ، أو يناضل من أجل العدل بعد أن عانى من الظلم ، دليلاً على هذه الحقيقة ؟ هؤلاء لم ينتظروا حتى تندمل جراحهم ليمدوا أيديهم ، بل جعلوا من ألمهم مذبحاً يتضرعون عليه ألا يذوق أحدٌ مرارة ما ذاقوا . إنه إيمانٌ فريد : أن ترى في كربك بذوراً لخلاص غيرك ، وأن تؤمن بأن دموعك ليست ضياعاً ، بل غيثٌ يُنبت زهوراً في بساتين لم تطأها قدمك بعد.

ما أروع الإنسان حين يخرج من معركة الألم كشجرةٍ مثقلة بالفاكهة ، تمنح ظلالها وحلواها لمن يسير تحتها ، بعد أن عانت هي من قسوة الجفاف. هؤلاء ليسوا بالضرورة الأقوى جسداً ، لكنهم الأشدّ شجاعة في مواجهة ذواتهم ، فيعترفون بضعفهم ليكونوا سنداً للضعفاء. هم يذكروننا أن الدموع ليست عاراً ، بل ندىً يُحيي القلوب القاحلة ، وأن الألم ليس نهاية المطاف ، بل محطةٌ لفهمٍ أعمق لأسرار الوجود.

إذا أمعنت النظر حولك اليوم ، ستلمح هذه النفوس تسير بيننا كشمعدان في نفق مظلم. قد تجدها في عيني غريبٍ ابتسم لك حين احتجت إلى ابتسامة ، أو في يد أمٍّ تمسح دموع طفلٍ ليس ولدها، أو في صوتٍ يهمس لمقهور : ” أنا هنا بجانبك “. هؤلاء لم يخلقوا أطهاراً ، بل اختاروا أن ينظفوا قلوبهم من الأحقاد ، ويملؤوها بالعطاء. في عالم يلهث وراء الأنانية ، يبقى أنبل الناس أولئك الذين يخرجون من عواصفهم حاملين مظلاتٍ ليحمي بها غيرهم من المطر .

سنلتقى إن كان فى العمر بقيه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى