مشاهير

الصمت الذي يصرخ : حين يصبح الفهم ملاذًا نادراً

بقلم الكاتب الصحفى : أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب ✍🏻

في زحمة الحياه ، حيث تتصادم الأصوات وتتشابك الأحاديث ، يبدو الوحيدُ الذي يعيش بين الناس كمن يسير في صحراء ممتلئة بالوجوه ، لكنها خالية من القلوب . فليس الشقاء في غياب الصحبة ، بل في حضورها بلا معنى .

فالإنسان كائنٌ يحمل في داخله كونًا من المشاعر والأفكار التي تبحث عن مرآة تعكسها بصدق ، لا عن أعينٍ تلتقطها لتحوّلها إلى أشباحٍ من سوء الفهم .
الشقاء الحقيقي ليس أن تظل وحيدًا ، بل أن تكون محاطًا بمن يسمعونك ولا يدركونك ، يحدّقون في عينيك ولا يرون ما خلفهما ، يلمسون يديك ولا يشعرون ببرودة الوحدة التي تختبئ تحت الجلد .

العلاقات الإنسانية تشبه الحديقة ؛ بعضها يزهو بألوان التفاهم والاحتواء ، وبعضها الآخر يجفّ حتى وهو ممتلئ بالأشخاص .
فعندما تجلس مع من لا يفهمك ، تشعر كأنك تتحدث بلغة لا يعرفها أحد ، كأنك ترمي كلماتك في بئر عميقة فلا تسمع إلا صدى يسخر من عمق ما بداخلك .
كل جملة تُقال تُحرّف ، كل نظرة تُفسَّر بخلفية الشك ، كل صمت يُملأ بتأويلاتٍ تجعل من قلبك سجنًا تسكنه وحيدًا .
فالألم ليس في الفراغ الذي تتركه الوحدة ، بل في الفراغ الذي يصنعه الآخرون حين يحوّلون وجودهم إلى جدارٍ عازل بينك وبين ذاتك.

Oplus_131072

فهذا التشويه المستمر للكلمات والمشاعر لا يترك جرحًا سطحيًّا ، بل يصنع شروخًا في الهوية.
فكم من مرة تمنيتَ أن تحذف كلمةً قبل أن تقال ، أو أن تشرح موقفًا قبل أن يُساء فهمه ؟
كم من مرة فضّلت الصمت لأنك تعرف أن كلامك سيُقلب ضدك ، أو أن ضحكتك ستحوّلها عيون الغير إلى دليلٍ على الجنون؟
الإنسان الذي يعيش بين من لا يفهمونه يشبه شجرةً تُغذّى بماء مسموم ؛ تظل حية ، لكن أوراقها تذبل يومًا بعد يوم ، حتى تفقد رغبتها في النمو.

لكن هناك ، في زاويةٍ ما من العالم ، قد يصادفك شخصٌ يمسك بمفتاح روحك دون أن تدفعه إلى ذلك. شخصٌ لا تحتاج معه إلى ترجمانٍ بين قلبك ولسانك ، ولا إلى شرحٍ لما تعنيه نظرة عينيك. في وجوده ، تكتشف أن الكلمات قد تكون أحيانًا مجرد زينة للحوار ، لأن الصمت بينكما يحمل كل المعاني .

هو لا يحاول أن “يفكّ شفرتك” أو أن يثبتَ ذكاءه بتحليل نواياك ، بل يقف ببساطة كمرآة صافية تعكس ما أنت عليه دون تشويه.
ففي تلك اللحظات ، تدرك أنك لستَ مجنونًا ، لستَ مُفرطًا في الحساسية ، أو ضعيفًا كما حاول الآخرون أن يصوروك . فوجوده برهانٌ على أنك إنسانٌ طبيعي في عالمٍ يجعل من الطبيعي ضربًا من الخيال.

هذه النعمة ، نعمة الصحبة الحقيقية ، ليست مجرد تدبيرٍ عابر للوحدة ، بل هي كالأكسجين لروح تكاد تختنق تحت وطأة العزلة الجماعية.

إنها العلاقة الوحيدة التي لا تحتاج فيها إلى ارتداء أقنعة ، أو تبرير مشاعر ، أو الدفاع عن أسباب وجودك . كم من إنسان عاش ومات دون أن يجد هذه النعمة ؟
كم من شخصٍ دُفنَت أحلامه تحت ركام سوء الفهم ؟

في النهاية ، ليست الحياة سوى رحلة بحثٍ عن ذلك القلب الذي يقرأ ما بين السطور ، يلمس الجروح دون أن ينفخ في الجمر ، ويحمل قصتك كما لو كانت ملكًا له.
فإذا صادفتَ هذا الكنز الإنساني ، فاعلم أنك حصلتَ على أعظم هبة يمكن أن تمنحها الأقدار : أن تكون نفسك دون خوف ، أن تُسمع دون تشويش ، أن تُحب دون شروط.
وحينها فقط ، ستدرك أن السعادة ليست في كثرة الصحبة ، بل في نقاء القلوب التي تصحبك … فكم من صامتٍ ينزف دمًا ، وكم من محظوظٍ وجدَ من يسمع دقات قلبه قبل كلماته.

سنلتقى إن كان فى العمر بقيه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى