القُبلة التي شطبت كل الدعاية الإسرائيلية ، قوة الإنسانية في وجه الصراع
بقلم أيمن شاكر نائب رئيس قسم الأدب

في عالمٍ تُسيطر عليه الروايات السياسية المُعقدة والدعايات الحربية المُكثفة ، تبرز أحياناً لحظات إنسانية خالصة قادرة على اختراق جدران الكراهية وإعادة تعريف الصراع من منظورٍ مختلف . أحد هذه اللحظات النادرة حدثت مؤخراً خلال عملية تسليم أسير إسرائيلي إلى الصليب الأحمر ، عندما فاجأ الأسير الجميع بتقبيله جندياً من المقاومة الفلسطينية الذي كان ضمن الفريق المُشرف على تحريره ، هذه القبلة ، التي انتشرت صورها كالنار في الهشيم ، لم تكن مجرد لفتة عابرة، بل أصبحت رمزاً يُحاكَم من خلاله زيف الروايات الإسرائيلية التي تُجرد الفلسطيني من إنسانيته.
صراع الروايات وأسطورة التفوق الأخلاقى :-
لعقود ، اعتمدت الدعاية الإسرائيلية على تصوير نفسها
كـ ” دولة ديمقراطية ” ، تواجه ” إرهاباً ” غير مبرر ، مستخدمةً خطاباً يختزل الفلسطيني إما كـ ” إرهابي ” أو كضحية لقيادات فاسدة
ولكن في المقابل ، عملت الرواية الفلسطينية على تسليط الضوء على مقاومة الاحتلال كحقٍ شرعي ، مع التأكيد على معاناة الشعب تحت القمع اليومي ، لكن الصور النمطية المتكررة لكلا الطرفين تُغيب حقيقةً أساسية :-
أن الصراع ليس بين بشر وآخرين ، بل بين مُحتل وشعبٍ يُدافع عن أرضه.
هنا ، تأتي أهمية اللحظة التي التقطتها كاميرات الصحفيين : قبلةٌ من أسير إسرائيلى ربما تكون مُفعمة بالتناقضات ، لجندي فلسطيني ، تُذكِّر العالم بأن هؤلاء ” الجنود ” و ” المقاومين ” ليسوا شخصيات كاريكاتورية ، بل بشرٌ قد تختلط مشاعرهم بين الكراهية والشفقة ، بين الرغبة في الانتقام والرغبة في السلام.

ما الذي تقوله القبلة ؟
1ـ تفكيك صورة الوحش
لطالما سعت الآلة الإعلامية الإسرائيلية إلى تصوير المقاومين الفلسطينيين ككائنات عنيفة لا عقلانية. لكن هذه القبلة، ببساطتها، قلبت هذا السرد رأساً على عقب ،
فالجندي الفلسطيني ، الذي من المفترض أن يكون ” خاطفاً ” أو ” معذِباً ” وفق الرواية الإسرائيلية ، ظهر هنا كإنسان يُشارك في عملية إنسانية لتسليم أسير ، بل وحصل على تعبيرٍ من الامتنان من الأسير نفسه.
2 ـ إحراج الرواية الإسرائيلية
كيف تُفسر دولة تحتل أراضي الآخرين وتصفهم بالإرهاب أن يُظهر أسيرٌ إسرائيلي امتناناً لخصومها ؟
هذه اللحظة تُعري تناقض الخطاب الإسرائيلي الذي يرفض أي إعتراف بإنسانية الفلسطيني ، بينما الواقع يُثبت أن التعامل اليومي بين الطرفين ، حتى في أحلك الظروف ، لا يخلو من لحظات تذوب فيها الحدود المصطنعة بين
” الشرير ” و ” البطل ”
3 ـ القوة الناعمة للصورة
في زمن وسائل التواصل الاجتماعي ، تُصبح مثل هذه الصور سلاحاً لا يُستهان به ، فالقبلة لا تحتاج إلى ترجمة ، فرسالتها عالمية ، تفسر بأن الإنسانية قادرة على تجاوز السياسة ، وهذا ما يخشاه الإسرائيليون ، الذين يعتمدون على تضليل الرأي العام العالمي عبر إبراز أنفسهم كضحية دائمة.
ردود الفعل : من الإنكار إلى التأويل
لم تمر الحادثة دون جدل ، حاولت بعض الوسائل الإعلامية الموالية لإسرائيل التقليل من شأنها ، واصفه إياها بأنها ” مُفتعلة ” أو ” إستثنائية ” ، بينما رأى فيها الفلسطينيون انتصاراً لرواية مقاومتهم ، لكن التفسير الأكثر عمقاً جاء من محللين سياسيين ، أشاروا إلى أن مثل هذه اللحظات تُظهر أن الاحتلال نفسه هو العدو الحقيقي ، وليس البشر المحشورين في دوامة عنف لا ينتهي .
ما بعد الصوره والحدث :-
لا تُنهي قبلةٌ إحتلالاً ، ولا تحل صراعاً مستعراً منذ عقود . لكنها تفتح نافذةً لإعادة التفكير في السرديات التي تُغذي الصراع . فإذا كان الأسير الإسرائيلي قادراً على رؤية الإنسان في جندي مقاومة ،
فلماذا تُصر الحكومات على تسويق الكراهية ؟
ولماذا يُحارب الفلسطيني حين يطلب حقوقه بالإنسانية ، ويُحارب الإسرائيلي حين يتعاطف معها ؟
هذه اللحظة تذكير ، بأن السلام لا يُبنى بالدبابات والخطابات الحربية ، بل بالاعتراف المتبادل بإنسانية الآخر . ربما تكون القبلة مجرد شرارة ، لكنها تثبت أن الروايات الكاذبة ، مهما بلغت قوتها ، لا تصمد أمام قوة الإنسانية الخالصة.
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه