الكاتبة ياسمين يسري

في فضاء الكلمات تنبضُ قصةٌ تُشبهُ حكايةَ فراشةٍ خرجت من شرنقتها الريفية نحو سماءٍ لا تعرف الحدود، تلك هي ياسمين يسري.. التي صاغت من إصرارها لوحةً نابضةً بالأمل والعزيمة، وما بين ثنايا صفحاتها تتراقص ملامحُ الطموحِ والحلمِ الذي لا يهدأ.
من رائحةِ الأدوات الطبية إلى عطرِ الحرفِ والإعلام.. رحلةٌ تختزلُ أبهى معاني الانعتاق
في عامِ 2017، دخلت ياسمين يسري قاعاتِ كلية التمريض وهي تحملُ في قلبها شغفَ خدمةِ الآخرين.. كان صوتُ الآلات الطبية ودقاتُ القلوبِ ينبضانُ في أذنها، لكنها سرعان ما تذكرت بداخِلها ذلك الشغفَ الأدبيّ الذي لا يقاومُ له رمق. نشأتْ في بيئةٍ ريفيةٍ لا تتساهلُ مع الاختلاف.. في مكانٍ حيث التقاليدُ صارمة، والخيالُ محاصرٌ بالجدران. رغم ذلك، احتفظتْ ياسمين في صدرها بذرةً للأملِ، وقررت أن تخوضَ طريقًا لا تعرفُه إلا من خلال حدسِها وأفكارها.
الـكورونا.. منعطفٌ ألمَّهُ الصعابُ فأنبتَ أثمنَ البذور
حين هبتْ رياحُ جائحةِ كورونا على العالم، توقفتْ شرايينُ الحياةِ اليومية.. وتوقفتْ معها آمالُ ياسمين في ممارسةِ ما درستْه. تلك الوقفة القسرية كانت كبصمةٍ في هجرتها الداخلية؛ إذ تذكرتْ أن الكلمةَ أقوى من العمرَة، وأن للقلمِ سلطانًا لا يخضع لمعوقاتِ الزمانِ والمكان. فكانت الصحافةُ والإعلامُ وجهتها الجديدة، رغم أن هذه المسارات كانت تعدّها «رفعةً وتحديًا» في مجتمعٍ يضعُ المواطنين في «صندوقٍ» من الأفكار الجامدة. هنا اتخذت قرارَها.. أن تكونَ صوتًا لمن لا صوتَ لهم، وأن تكتبَ حتى يتجلّى في سطورها وجهُ الحقيقة.
“غموض أنثى (ما بين المرأة المصرية والفلسطينية)”.. كتابٌ صار مرآةً صافيةً لمعاناةِ الأنثى ومسيرة صمودها
لم تكن ياسمين راضيةً بأن تكتبَ يومياتٍ سطحيةً أو أحداثًا عابرةً.. بل اختارتْ أن تلتقطَ الأوتارَ المرهفةَ في ألمِ المرأةِ الفلسطينية تجاهَ شريكتِها المصرية. «غموضُ أنثى» ليس مجرّد عنوانٍ فاترٍ.. بل هو لوحةٌ مُعقدةٌ تتشابكُ فيها خيوطُ الهوية والحُرية، وتتشعّبُ فيها أسئلةُ التضحيةِ والانتماءِ. خرج الكتابُ إلى حيزِ الوجود، فلامسَ وجدان آلافِ القرّاء بهذا التوازن الدقيق بين الألمِ والصمود، حتى وُصل إلى طبعته الرابعة، رقماً لا يتحققُ إلا بعد أن يلامسُ النصُّ قلوبَ الناسِ فتستمرُّ رحلته.
عونٌ للآخرين.. دعمٌ للأقلامِ الناشئةِ وصقلٌ للإبداع
لم تكتفِ ياسمين بانتصارها الشخصيّ على إغراءاتِ العزلة؛ بل تمدّتْ يدها إلى آخرين يريدون عبورَ عتباتِ الكتابة. أَشرفتْ على إصدارِ العديدِ من الكتب؛ ولعلّ ما يبهركَ حقًا هو حرصُها على أن يمنحَ كلُّ كاتبٍ وكاتبةٍ فرصةَ الظهور، وأن تُقدّم لهم نصائحَها الثمينةَ عن الإسهابِ دون تكرارِ الكلامِ، وعن اختزالِ المعلومةِ دون التفريطِ في جمالِ العبارة. ففي حضرةِ ياسمين، تجدُ القلمَ يُطيرُ بحرية.. وتميدُ الفكرةُ بين السطورِ كما لو أنّها بوحٌ صادقٌ يخاطبُ الذاكرةَ الإنسانية.
منبرٌ ثقافيٌّ واجتماعي.. حضورٌ يتجاوزُ حدود الصحافة
في سماءِ الفعلِ المجتمعي، لم تغفُ عن دورها أبدًا. فهي ليستْ كاتبةً انطوتْ على نفسها خلفَ شاشات الحاسوب والورق.. بل كانت مدارَ مشاركةٍ في مَرْكَز الفعل البشري: مهرجانات، ندوات، وحواراتٌ لا تنتهي. تحملُ على كاهلها لقبَ الراعي الرسميِّ لمهرجانِ «هيباتيا للثقافة والفنون» في الثامن من أغسطس 2023؛ وهو جهدٌ تنويريٌّ يعكسُ شغفَها الغامرَ بمملكةِ الفنِّ والإبداع. حين تُقدمُ على رعايةٍ كهذه، فإنما تكتُب حكمةً تقولُ: «الثقافةُ ليست ترفًا.. بل هي روحُ الحياةِ التي تبقينا متصلينَ بإنسانيتنا».
“المتمردة”.. روايةٌ جديدةٌ تعدُ القارئَ ببوابةٍ نحو المستقبل
ولا يخفى على أحدٍ أنّ ياسمين ما زالتْ تجدُ في قلبها نوافذَ مفتوحةً لمشاريعَ قادمة. أحدثُ هذه المشاريع هو مشاركتُها في كتابةِ روايةٍ بعنوان «المتمردة»، التي تعدُّ بأن تكونَ من أكثرِ الأعمالِ إثارةً في الفترة المقبلة.. روايةٌ قد تحملُ معها روحَ التمرّدِ والجسارة، وتسردُ قصةَ امرأةٍ ترفضُ القوالبَ الجاهزةَ وتبحثُ عن ذاتها وسطَ السُّدود.
بين التحديات والطموح.. نبضُ قلمٍ لا يهدأ
اليوم، لا تزال ياسمين يسري تواصل شحذَ قواها الذهنيةَ؛ فهي تُفكّر في مشاريعَ جديدةٍ لبيئةِ الصحافةِ والإبداعِ الأدبيّ. ربما تقفُ أمامَ صفحاتٍ فارغةٍ في الصباح، تعيدُ ترتيبَها في المساء، وتولدُ منها فكرةً تتسلّلُ في ليلِ البحرِ فتضيءُ ظلماتِ قلبٍ آخر.. هذا هو سرُّ الكتابة.. أن تحوّلَ الصمتَ ثورةً، وأن تزرعَ بذرةً في صحراءٍ قاحلةٍ فينبتَ الحلمُ بعيونٍ تتطلعُ إلى الأفق.
ختامًا.. تحيةٌ إلى من صنعتْ من الهموم أجنحةً
تسلمُ أياديها التي روت حروفَ الإبداعِ بالعملِ والجهدِ والمثابرة، فقد جسّدتْ مثالًا حيًّا على أن الانتماءَ إلى أرضٍ ريفيةٍ لا يعني الإقفالَ على الآراءِ المحدودة، بل قد يكونُ دافعًا لاكتشافِ عوالمَ أكثر اتساعًا. كم هو جميلٌ أن نقرأَ قصةً تخرجُ بالأنثى من عالمِ التقاليدِ المقيِّدةِ إلى عوالمٍ تحرّرُ العقلَ والخيال، قصةٌ نجدُ في نهايتها دعوةً صامتةً للأحلامِ بأن تأخذَنا إلى حيثُ لا تُحَدُّ الأسبابُ ولا تُكْبَلنا القيود.
بهذه الكلماتِ نختمُ مقالَنا.. ولينحُنَّ القلمُ احترامًا للاسمِ الذي جعلَ من التحدّي منارةً، ومن الكتابةِ جوازَ عبورٍ إلى مغامراتٍ لا تنتهي، فهي ياسمين يسري.. يا صاحبةَ الأحلامِ التي لا تخشى الصحراء حتى يعرفَ العالمُ أنَّ في قلبِها غيمةً تسقي الحقول!