ربما لن نندم على ما فقدناه ، بل على ما لم نعطه من قلبنا حين كان بين أيدينا

بقلم الكاتب الصحفى : أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب ✍🏻
نحن مجتمعٌ يلهثُ وراء الوُسوم والأثمان ، كأنما الغالي هو كل ما يبهر العين أو يُثقِل الجيب ، لكن الحكمة القديمة تُهمس في أذن الزمن :
” ليس كل غالي باقٍ .. ولا كل باقٍ غالي “.
ليست هذه العبارة مجرد لفظٍ عابر ، بل مرآة تعكس تناقضاً وجودياً نعيشه : صراع بين ما نعتقد قيمته ، وما يثبت جوهره مع تقلبات الدهر. فكيف نُفكك هذا التناقض ؟
وأين تكمن الحقيقة بين سطور هذه المعادلة الصعبة ؟
فكم من أشياء دفعنا ثمنها الدم ، ظنًّا أنها ستبقى شواهد على حياتنا ، لكن الزمن سخريٌّ :-
سيارات فاخرة تبهت ألوانها ، مقتنيات ثمينة تتراكم عليها الغبار ، علاقات اجتماعية تذوي حين تختفي المصلحة.
هنا يبرز السؤال : هل كل ما ندفع له ثمناً عالياً يستحق البقاء ؟
الأدب العالمي يروي لنا حكايات لا تُحصى عن هذا الوهم. في رواية “الجريمة والعقاب” لدوستويفسكي ، يدفع ” راسكولنيكوف ” ثمناً غالياً لخطيئته ، لكن ما تبقى منه هو الندم الذي لا يُغسل. حتى “الأمير الصغير” يذكرنا بأن “أهم الأشياء لا تُرى بالعين”، فالقيمة الحقيقية لا تُقاس بالمال ، بل بما يتركه الشيء فينا من أثر.
لكن المقابل صحيح أيضاً :-
ليست كل الأشياء الباقية ثمينة في أعين الناس . فكم من ذكريات بسيطة تظل محفورة في القلب رغم عدم اكتراث العالم بها ؟
وكم من كلمات عابرة قالها لنا أحباب رحلوا ، صارت شموساً نستدفئ بها في ليالي الوحدة ؟
خذ مثلاً الرسائل التي كان يتبادلها الأدباء قديماً ، كرسائل ” جبران خليل جبران ” ، أو مراسلات
” فيكتور هوغو ” .
تلك الأوراق البالية لم تكن تساوي فلساً في سوق المال ، لكنها صارت كنوزاً أدبية تُدرَّس للأجيال. حتى الأمهات اللواتي يضحين بأعمارهن في صمت ، لا يُقاس ثمنهن بذهب الأرض ، لكنهن يخلدن في سجلات القلب.
وهنا يكمن التحدي الأكبر :-
كيف نميّز الغالي الحقيقي قبل فوات الأوان ؟ التاريخ يخبرنا أن أعظم الخسائر هي تلك التي لم ندرك قيمتها إلا بعد فقدها.
الشاعر الفلسطيني ” محمود درويش ” لم يبكِ على وطنه إلا حين صار بعيداً ، والموسيقار “بيتهوفن” لم يعرف قيمة سمعه إلا حين أضاعه.
القاعدة بسيطة : كل ما يشعرك بأن الوقت يتوقف عند وجوده ، كل ما يذكرك بأنك إنسان قبل أن تكون رقماً أو سلعة ، هو الغالي الذي يستحق الحماية .
لكن البشر للأسف يميلون إلى التعقيد ، فيبحثون عن ” الباقي ” في خزائن البنوك ، بينما هو ينام في أحضان الأمهات ، في ضحكات الأطفال ، في كتب مهملة على الرفوف ، وفي أيدي أصدقاء نعتقد أنهم سيبقون للأبد !
في النهاية ، لن ينقذنا إلا إدراك واحد :- أن الحياة أقصر من أن نهدرها في جمع ما لا يبقى ، وأغلى من أن نفقد ما لا يُعوَّض .
فكما قال أبو الطيب المتنبي :- ” إذا غامرت في شرف مروم .. فلا تقنع بما دون النجوم ” .
لكن نجومنا الحقيقية ليست في السماء ، بل في تلك اللحظات الهاربة التي لا تنتظر أحداً.
احفظوا غاليكم … لا تلهثوا وراء سراب “الغالي” الوهمي .
فالشيء الوحيد الذي يبقى حقاً ، هو ذلك الذي يخلق فيك شيئاً … لا يموت .
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه