
بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب ✍🏻
ليست كل العلاقات وُلدَت من فراغ ، فبعضها ينسج خيوطه بأيدٍ خفية ، كأنما الأرواح تتعارف قبل الأجساد . حين يلتقي شخصان متوافقان روحياً ، تتحول اللحظات إلى سيمفونية من المشاعر التي لا تحتاج إلى كلمات لتعريفها ، بل تشع في تفاصيل صغيرة تُخبرك بأن هذه الرحلة مختلفة . إنها ليست مجرد لقاءات عابرة أو حديثاً سطحياً ، بل هو اتصال يلامس الأعماق ، حيث تُلغى الحدود بين ” أنا ” و” أنت ” لتصبح ” نحن ” بتوافقٍ يشبه المعجزات .
عندما تجد نفسَين يتحدثان لساعات دون ملل ، كأن الزمن توقف ليسمح لهما بالغوص في عالمهما الخاص ، فهذه ليست محادثة عادية ، إنها رحلة تسبح فيها الأفكار بحرية ، حيث لا تبحثان عن نهاية للحديث ، بل عن متعة اللحظة ذاتها ، حتى المواضيع البسيطة تكتسب عمقاً ، لأن الكلمات هنا ليست وسيلة للتواصل فحسب ، بل جسراً يعبر إلى ما وراء المنطق ، وفي خضم هذا الحوار ، يفقد الزمن معناه ، فتلتقيان عند الغروب ، وإذا بضحى الصباح يطرق الباب وكأن أربع ساعات قد مرت كلمح البصر ، فالوقت لا يُقاس هنا بالدقائق ، بل بالشغف الذي يذيب الساعات إلى ذكريات .
والشعور بالراحة هو أول مفتاح لهذا التوافق . تشعر حينها وكأنك تعرفه منذ زمنٍ طويل ، رغم أن اللقاء قد يكون حديثاً ، تدخل الغرفة ، فيرتسم على وجهه ابتسامة لا إرادية ، وكأن وجودك يضفي على المكان طمأنينة غريبة ، هنا ، لا تحتاج إلى أقنعة أو تصنُّع ، فأنت تعرف أنك أمام شخصٍ يراك كما أنت ، بكل نقاط ضعفك وقوتك ، حتى الصمت بينكما ليس محرجاً ، بل هو لغة أخرى تروي ما تعجز الكلمات عن التعبير عنه.
فالابتسام يصبح جزءاً لا يتجزأ من لقاءاتكما . فلا تحتاج إلى سببٍ محدد لترسم الفرح على وجهك ، فهو ينبع تلقائياً كشمس تشرق من غير استئذان ، نظرة عينٍ تلتقي بأخرى تكفي لتبدأ الزوايا ترتسم في محيّاكما ، وكأن بينكما اتفاقاً سرياً على مشاركة هذه السعادة الهادئة ، هذا النوع من التواصل لا يحتاج إلى ضجيج ، فهو يحمل في طياته قوةً روحية تلمس القلب قبل العقل .
فقد تكون أكثر اللحظات سحراً تلك التي تفهمان فيها بعضكما دون كلام . جملة تبدأها ليكملها هو ، أو نظرة تعبر عن شعورٍ لم تُعلنه بعد ، هذا التوافق الروحي ليس مجرد صدفة ، بل هو نتاج اتصالٍ خفيٍّ يجعل الأرواح تتناغم كأنها عزفٌ على وترٍ واحد .
هنا ، تدرك أن بعض المشاعر لا تحتاج إلى تفسير ، فهي ببساطة ” تُشعر ” بها .
لغة الجسد هنا تروي قصصاً لا تُكتب . انجذاب العينين ، حركات اليدين التي تبحث عن التقارب ، أو الميل الخفيف للأمام أثناء الحديث … كلها إشارات تكشف ما تحاول الكلمات إخفاءه . حتى التفاصيل الصغيرة التي ينساها الآخرون تظل محفورة في الذاكرة . كذكرى عابرة أو نكتة شاركتماها ، أو حتى لون قميصه المفضل … كل شيء يكتسب قيمة لأنه جزء من عالمكما المشترك.
في هذا النوع من العلاقات ، لا مكان للأسرار . تشعر بأنك تستطيع مشاركة أدق تفاصيلك دون خوف من الحكم عليك ، حتى الهفوات التي قد تُخجل منها أمام الآخرين تتحول إلى قصصٍ تضحكان عليها معاً . الثقة هنا ليست اختياراً ، بل نتيجة طبيعية لهذا الانفتاح الروحي الذي يجعل الحواجز تذوب.
في النهاية ، هذه علاقة لا تُقاس بالوقت أو بالكم ، بل بالجودة . هي ليست مثالية ، لكنها حقيقية . ففيها تدرك أن الحب الحقيقي ليس مجرد فراشات في البطن ، بل سلامٌ تجده في حضرة شخصٍ يفهمك حتى من دون أن تنطق ، هي رحلةٌ تتعلم فيها أن أعظم اللحظات ليست تلك التي تخطط لها ، بل التي تُحييك بها الأقدار عندما تلتقي بروحٍ تشبهك.
فإن صادفتَ يوماً قلباً يخفق بتناغمٍ مع قلبك ، فلا تتردد في الاحتفاء بهذه الهبة النادرة ، ففي عالمٍ مليء بالضوضاء ، قد تكون هذه العلاقة هي الهمسة الوحيدة التي تذكّرك بأن الحياة تستحق أن تُعاش … حين تلتقي الأرواح قبل الأجساد ، يصبح الحب قصيدةً تُكتب بدموع الفرح وابتسامات الروح ، وتظل أصداؤها ترنُّ في أعماقك حتى بعد أن تغيب اللحظة .
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه