مشاهير

رقصة الظل والضوء : فن الإمالة الخفيفة في قبضة القدر

بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب ✍🏻

الحياة ، بمفارقاتها الصارخة وأسرارها المتلألئة ، تُلقّن دروسًا لا تُنسى في فن الوجود . ومن أعظم ما علمتني إياه ، تلك الحكمة المتلألئة كقطرة ندى على حرير :
أزهد زهدًا رفيعًا وأميل للشيء بخفة، كأن الشيء بيدي وهو ليس في قبضة يدي
ليست هذه مجرد كلمات ، بل هي فلسفة رشيقة للتعامل مع نسيج الوجود المليء بالجذب والدفع ، بالأمل واليأس ، بالامتلاك والفقدان .

إنها فن التوازن على حبل رفيع ممتد بين الرغبة والتحرر ، بين الاندفاع والتأمل ، بين أن تمد يدك وكأنك تمسك بالنجم ، بينما تعلم في أعماقك أن النجوم لا تُمسك ، بل تُعاش.

فما هو هذا الزهد الرفيع ؟
إنه ليس انسحابًا من العالم ، ولا جلدًا للذات ، ولا حرمانًا قاسيًا ، بل إنه ارتقاء فوق وهم التملك المطلق .
هو أن ترى الأشياء بكل بهائها وقيمتها ، ولكنك لا تسمح لها بأن تمتلكك .
هو أن تقدر العمل الفني دون أن تصرخ إذا انكسر ، أن تحب بكل جوارحك دون أن تختنق الخوف من الفراق ، أن تسعى للهدف بكل عزمك دون أن يتحول فشله المؤقت إلى نهاية الكون. هو زهد الناضج الذي ذاق حلاوة الدنيا ومرارتها ، فعرف أن التعلق الشديد بالجزئيات هو سجن للروح ، وأن الحرية الحقيقية تكمن في القدرة على الاستمتاع بالشيء دون أن يصبح سيدًا على مشاعرك وسكينتك .
إنه رفض لجشع الروح الذي يطمع في تثبيت كل شيء ، وإدراك أن الحياة في جوهرها حركة وتدفق.

ثم تأتي الإمالة الخفيفة
هذه هي الرشاقة الوجودية . هي ليست برودًا ولا لا مبالاة ، بل هي اقتراب بنعومة وذكاء.
هي أن تميل بقلبك وعقلك نحو ما تريد ، كأنك تمتد لقطف زهرة بكل رقة وتركيز ، لكن دون أن ترهق جذعها فتقتلها ، ودون أن تذبل روحك إذا ما طارت الزهرة مع الريح قبل أن تصل إليها.

تخيل الفنان وهو يرسم ؛ يميل بكل كيانه نحو لوحته ، مشاعره تتدفق ، لكنه يعرف أن اللوحة ليست هو ، وأن جمالها قد يكمن حتى في الخط غير المتقن. أو تخيل الأم وهي تحتضن طفلها؛ حبها لا حدود له ، إمالتها إليه كاملة ، لكن زهدها الرفيع يخبرها أن هذا الكائن العزيز ليس ملكًا لها إلى الأبد ، بل وديعة مؤقتة في حضن الزمن ، عليها أن تحب بكل قوة ، وأن تترك بكل حكمة عندما يحين وقت الإطلاق.

هذه الإمالة الخفيفة هي التي تحمي القلب من السحق تحت عجلات التوقع. كم مرة تعلقنا بشيء ، وظيفة أحلام ، علاقة متوهجة ، خطة محكمة ، وكأنه محفور في صخر الأبدية ؟
ثم إذا به ينزلق من بين الأصابع كالرمل ، تاركًا خلفه جرحًا غائرًا لأننا أمسكناه بقبضة حديدية ، لا بإمالة رقيقة . الإمالة الخفيفة تتيح لنا أن نعيش التجربة بكل ثرائها ، أن نعطيها حقها من الجهد والشغف ، لكن بمسافة أمان نفسية.

نعرف أن النتيجة ، مهما بلغت قوة رغبتنا ، ليست في قبضتنا الحقيقية. هناك أقدار ، هناك مفاجآت ، هناك إرادات أخرى ، هناك ببساطة سر الحياة الذي يتجاوز تخطيطنا ، الإمالة بثقل تجعل السقوط مدوّيًا ، أما الإمالة بخفة فتجعل الانحناءة مع الريح ممكنة، بل ربما جميلة.

التحدي الأكبر هو ممارسة هذا الفن في لحظات العاطفة الجياشة أو الطموح المحرق.

كيف تميل بخفة نحو حبيب يملأ الكون كله ؟ كيف تتعلق بهدوء بمنصب كنت تحلم به لسنوات ؟
الجواب يكمن في إدراك أن الزهد الرفيع ليس إنكارًا للرغبة ، بل تنقيتها من سموم التملك واليأس. هو أن تملأ كفيك من ماء النهر الرقراق ، سعيدًا ببرودته وصفائه، دون أن تحاول إيقاف جريانه أو حبسه إلى الأبد .
هو أن ترى في كل ما تميل إليه مهما عظم هدية مؤقتة من حياة سخية ، وليس حقًا مكتسبًا أو ملكية دائمة.

الحياة ، في نهاية المطاف ، ليست معرضًا للتملك ، بل رحلة للمعايشة. الأشياء والأشخاص والأحلام تمر بين أيدينا كأطياف جميلة، بعضها يقترب فيلمسنا بنعومة، وبعضها يمر من بعيد. الزهد الرفيع هو العين التي ترى الجمال في الجميع دون أن تطمع في احتجاز أي منهم. الإمالة الخفيفة هي القلب الذي ينفتح للجمال، ينجذب إليه بصدق، لكنه يظل حرًا طليقًا، لا يهتز أساسه إذا ما تغير المشهد أو تبدلت الوجوه. إنه الاعتراف الصامت بأن قبضتنا الحقيقية ليست على الأشياء الخارجية، بل على طريقة رؤيتنا لها، وعلى سلامنا الداخلي في خضم عطائها وانتزاعها.

فليكن زهدنا رفيعًا كعبق الزهر في الهواء، لا نمسكه لكنه يملأنا. وليمِلْ قلبنا بخفة كفراشة تلامس الزهر ثم تطير، نعيش الشغف بكل جوارحنا، ونحن نعلم، في صمت الروح، أن كل ما نراه بين أيدينا اليوم، ما هو إلا ظل جميل يمر، ووديعة عابرة في كف القدر الأكبر. فهكذا نرقص مع الحياة، خفيفين، أحرارًا، مستعدين لأن نعانق كل ما يأتي، وأن نترك كل ما يرحل، بقلب ممتلئ بالشكر، وعينين لا تريان في الفقدان نهاية، بل بداية جديدة لرقصة أخرى تحت سماء لا تنتهي من العطاء والجمال .

سنلتقى إن كان فى العمر بقيه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى