عندما ترى القلوب ما تعجز عنه العيون : فأيُّهما أقدر على كشف الحقيقة ؟

بقلم الكاتب الصحفى : أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب ✍🏻
في صمت الليل ، حيث تُغلَق العيون وتنفتح الأسرار ، تبدأ رحلة البصر الحقيقي ، ليست العين أداة للإبصار ، بل هي نافذةٌ عابرةٌ إلى عالمٍ يكتنفه الغموض ، بينما القلب هو المرآة التي تعكس الحقائق الخالدة .
فالإنسان الذي تُعمي روحه عن الجوهر لا يرَى ولو أبصرَ الشمس في رابعة النهار ، والذي يُنير قلبه الحكمة يَرى الكونَ بأسره ولو سُدَّت عيناه بستار الظلام .
• هذه المفارقة العظيمة تدفعنا إلى التساؤل :-
أيُّهما أقدر على كشف الحقيقة ؟
العين التي تنظر ، أم القلب الذي يشعر ؟
يقودنا هذا السؤال إلى حكمةٍ خالدة : ” ضرير الروح لا يرى وإن أبصر ، وبصير القلب لو أغمض عينه يرى أكثر ” .
فالروح المظلمة تشبه عصفورًا حُبس في قفص من ذهب ؛ يملك كل شيءٍ إلا الحرية ، إنها تلمس الأشياء بيدين مغلقتين ، وتسمع الأصوات بآذانٍ صمّاء ، لأن غشاوة الجهل تحول بينها وبين إدراك الجمال المختبئ في التفاصيل ، أما القلب الواعي ، فهو كالبحر الهادئ الذي يخفي في أعماقه كنوزًا لا تُقدَّر بثمن .
إنه يسمع همسات الوجود ، ويرى بألم الأعمى الذي أدرك أن النور ليس ضوءًا ، بل حكمةٌ تلامس الروح .
التاريخ يروي لنا قصصًا لا تُحصى عن أناسٍ حوّلوا إعاقاتهم البصرية إلى منصاتٍ للإلهام ،
هل ننسى “هيلين كيلر” ، التي قال عنها العالم : “إنها الأعمى التي أبصرتْنا جميعًا” ؟
لقد أثبتت أن العين الجسدية قد تفقد البصر ، لكن عينَ الإرادة لا تُقهَر .
وفي الأدب ، نجد الأديب “طه حسين” الذي حوَّل ظلام عينيه إلى نورٍ يضيء طريق المعرفة للملايين ، هؤلاء لم يروا العالم بأعينهم ، لكن قلوبهم رسمت لهم خريطةً أكثر دقةً من أي بصرٍ مادي.
لكن المفارقة الأقسى تكمن في أولئك الذين يملكون عيونًا سليمة ، لكنهم يعيشون في ظلمة الروح ، إنهم يمرون بالحياة كالسياح العابرين ، يلتقطون الصور دون أن يلمسوا الجوهر ، تراهم يلهثون وراء المظاهر ، يبنون سُفنًا فارهةً لكنها تغرق في بحرٍ من الفراغ . إنهم يبصرون بالعين ، لكن قلوبهم لا تعرف معنى الرؤية . كم من شخصٍ ينظر إلى النجوم ولا يرى إلا نقاطًا مضيئة ، بينما يرى الطفلُ فيها حكاياتٍ ترويها الجداتُ في ليالي الشتاء ؟
وفي عصرنا هذا ، حيث تُسابق الشاشاتُ أنفاسنا ، وتتحول الحياة إلى سباقٍ نحو الحصول على “لايكات” و”مشاركات” ، أصبحت الرؤيةُ القلبية كنزًا نادرًا .
فنحن نعيش في عالمٍ يقدس الصورة ويُهمل الروح ، يبيع الوهم ويشتري الخواء ، لكن وسط هذا الضجيج ، تبرز أصواتٌ تهمس :-
” أغمض عينيك كي ترى “.
إنها دعوةٌ إلى العودة إلى الذات ، إلى التأمل ، إلى الاستماع إلى نبض القلب الذي لا يكذب . فالحب ، الإيمان ، الفن ، والأمل ، كلها أشياءٌ لا تُرى بالعين ، لكنها تُبنى في مختبر القلب.
وفي الختام ، عندما تُطفأ الأضواء ، وتنزوي الألوان ، يبقى القلبُ الشمعةَ التي لا تنطفئ. فالبصيرةُ ليست هبةً تُمنح ، بل اختيارٌ نصنعه بأن نعيش بوعي ، بأن نحب بتعمق ، وبأن نرى العالم ليس كما هو ، بل كما يمكن أن يكون .
فليكن درسنا اليوم هو أن نغمض أعيننا قليلًا ، كي نرى بعيون القلوب ما فاتنا بعيون الأجساد .
لأن الحقيقة ، في النهاية ، ليست ما نراهو، بل ما نختبره بكل جوارحنا .
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه