فلسطين : قصة أرض لا تنحنى ولا تنكسر

بقلم الكاتب الصحفى : أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب ✍🏻
فلسطين ليست مكاناً على الخريطة ، بل جرحٌ ينزف ذاكرةً لا تندمل ، وحكايةٌ تُروى بلسان الحجارة والأشجار والدم .
هنا ، حيث تُمسك الأرض بخيط الزمن بيدٍ من تراب وأخرى من زيتون ، تُولد المعاني من رحم المعاناة ، ويصير الصمود لغةً يفهمها الحجر قبل البشر .
في كلِّ زاويةٍ تُهمس الجبال بأسماء القرى التي اختفت ، لكنها لم تمت ، لأن الذاكرة هنا جذرٌ لا يموت ، وشجرة زيتونٍ لا تقبل أن تُقتلع .
في هذه الأرض ، تُشبه الحياة شجرة الزيتون التي “لا تبكي ولا تضحك” ، ترفض أن تُقاس مشاعرها بمنطق البشر ، لأنها تعرف أن دموعها ستغرق الأرض ، وضحكاتها قد تُحرقها الشمس .
هي سيدةٌ بلا تاج ، تكتفي بأن تكون “سيدة السفوح المحتشمة” ، ترفض التباهي بجمالها ، لكنها تعلم أن ظلها ليس مجرد وقاية من حر الصيف ، بل سترٌ لساقها الممتدة في الأعماق ، كأنها تخفي أسراراً لا تُقال إلا للأرض التي تحتضنها . حين تهب العواصف ، لا تُجاريها في صخبها ، ولا ” تخلع أوراقها ” كمن يستسلم ، بل تمسك بورقها الأخضر كعهدة أمانة بينها وبين الأجيال التي ستأتي .
الفلسطيني ، كشجرة الزيتون ، لا يحتاج إلى دموعٍ ليُثبت وجعَه ، ولا إلى ضحكاتٍ ليخدع عن قسوة واقعه . هو يعيش بتوازنٍ غريب :
” يقف كأنه جالس ، ويجلس كأنه واقف “.
وقفته ليست تحدياً صارخاً ، بل إصراراً هادئاً على أن الوجود نفسه مقاومة . وجلوسه ليس استسلاماً ، بل تراصفاً مع الأرض التي يحملها في دمه .
هنا ، حيث تُقاس الحياة ببطء نمو الشجرة ، لا بسرعة الرصاص، تُصبح العواصف مجرد محطاتٍ في رحلة البقاء.
لم تكن فلسطين يوماً مجرد أرضٍ تُسلب ، بل ذاكرةٌ تُحاول القوة الغاشمة سرقتها .
لكن كيف تُسرق ذاكرة محفورة في جذوع الزيتون ؟ كيف تُمسح أسماء قرى كُتبت على حبات التين ؟ كلُّ محاولة لطمس الهوية تزيد الأرض تشبثاً بجذورها ، مثل الشجرة التي تتعمق في التربة كلما حاول المنشار فصلها عن حياتها. النكبات هنا ليست نهاية ، بل دورةٌ كدورة الأوراق : تسقط بعضها لتُولد أخرى أكثر اخضراراً. المخيمات ، رغم فقرها ، تُعلِّم الأطفال أن الوطن ليس جدراناً ، بل رائحة الزيتون في موسم القطاف ، وصوت الأذان الذي يرفرف فوق الخيام.
حتى الاحتلال نفسه يعرف أنه يواجه شيئاً أكبر من البشر . إنه يواجه شجرة زيتونٍ عمرها آلاف السنين ، رأت إمبراطورياتٍ تزول ، وراياتٍ تسقط ، لكنها ظلت كما هي : صامدةً بلا ضجيج . جذوعها المحروقة ليست دليلاً على هزيمة ، بل شهادةً على أن النار لا تأكل إلا الضعيف. الفلسطيني الذي يزرع بذرة زيتونٍ في حديقة بيته المدمر يعرف أن المستقبل لن يُكتَب بالمدافع ، بل بالجذور التي ستنمو تحت الأنقاض ، وتُخرِس يوماً ما صوت القصف.
في فلسطين ، الزمن ليس عدواً . فالشجرة التي عاصرت الرومان والعثمانيين لا تُسرع خطاها ، لأنها تعرف أن الحقَّ لا يُقاس بالسنوات ، بل بالعمق . الفلسطيني الذي يحمل مفتاح بيته المهدم منذ سبعين عاماً لا ينتظر تعاطف العالم ، بل ينتظر اللحظة التي ستعود فيها الأرض لتقول : “مرحباً بمن رَوَاني بالصبر ، لا بالدم”.
وفي النهاية ، حين تنتهي كلُّ الكلمات ، تبقى فلسطين قصيدةً تُختصر بأبيات الشاعر :-
شجرة الزيتون لا تبكي ولا تضحك
هي سيدة السفوح المحتشمة
بظلها تغطي ساقها
ولا تخلع أوراقها أمام عاصفة
تقف كأنها جالسة
وتجلس كأنها واقفة
هكذا تُختزل فلسطين : أرضاً لا تنحني ، وشعباً يعرف أن الوقوف والجلوس وجهان لوجهةٍ واحدة اسمها الوطن .
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه