
بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب ✍🏻
سألني صديقى ذات ظهيرةٍ غائمة ، بينما كنا نرشف قهوتنا الباردة كقلوبنا التي تعلمت أن تحتمل البرودة بعد فراقٍ ما :
هل كنت ستختار النظر إلى عينيها ، وأن تعيش تلك القصة ، رغم معرفتك بنهايتها ؟
لم أتردد ، ابتسمتُ كمن يجد في السؤال مفتاحًا لصندوقٍ ظنّه ضاع بين الأيام ، ثم نظرتُ إلى الأفق حيث تلامس الغيومُ الأرضَ بلطف ، كأنها تخفي في حضنها سرًّا ما .
ثم أجبتُ : أجل ، سأختار النظر إلى عينيها مرةً أخرى ، دون تردد ، ولو أعادني الزمن إلى البداية مئة مرة .
ليست كل القصص تُكتب لتبقى ، وليست كل العيون تُفتح لتدوم ، لكن هناك عيونًا تُشبه المدن القديمة التي تحمل بين جدرانها حكايات الماضي ، ورغم تهالكها ، تبقى شاهدةً على جمالٍ ما كان .
عيناها كانتا هكذا ؛ مدينةً من ضباب ، وطناً مؤقتاً أضاء روحي بوهجٍ لم أجد مثله في أي مكان . كنت أعلم منذ اللحظة الأولى أنها لن تكون لي ، لكنّي اخترت أن أسكن في ضوئها ، كعابرٍ يعرف أن المطر سينتهي ، لكنه يرفع كفّيه ليحتضن كل قطرةٍ قبل أن تلامس الأرض .
فالحبّ ليس دائمًا امتلاكًا ، وليس دائمًا لقاءً يصل إلى شاطئ الأبدية . أحيانًا يكون مجرد قبضة هواء نمسكها في الأصابع ، نعلم أنها ستتبخر ، لكننا نغلق أعيننا لنحلم بأنها قد تتحول إلى ماءٍ يروي ظمأ الروح .
كانت هي قبضة الهواء تلك ، التي لم تروِ ظمأي ، لكنها علّمتني كيف أجد النقاء في العطش نفسه . كم من المرّات نظرت إليها كأنني أقرأ كتابًا أعرف أن صفحاته الأخيرة ممزقة ، لكني أصرّ على قراءة كل سطرٍ كأنه آخر ما تبقى من الكلام.
فلم تكن خيانةً للحظة أن أعيشها بكلّي ، رغم علمي بأنها ستغيب . بل كانت إخلاصًا نادرًا للقلب الذي قرر أن يحبّ بلا ضمانات ، أن يمنح بلا شروط ، أن يشتعل كشمعةٍ تُضيء دربًا لن تسلكه أبدًا .
هي لم تكن حبيبةً بالمعنى الذي ترويه القصص ، بل كانت لحظةً مكتملةً بذاتها ، كالوردة التي تتفتح في ليلةٍ واحدة ، ثم تذبل مع شروق الشمس ، لكن عطرها يبقى عالقًا في الجوّ ، يذكّر كل من مرّ بأن الجمال الحقيقي لا يحتاج إلى ديمومة كي يُخلّد .
قد يسأل سائل : ” أليس في هذا الحبّ انكسارٌ مُسبق ؟ ” . فأقول : كلّا ، إنه انتصارٌ صامتٌ لإنسانيتنا . أن تحبّ بلا خوف ، أن تمنح بلا حساب ، أن تشكر الكون لأنّه منحك عينين رأتا الجمال بعيدًا عن قيود المنطق ، هذا هو التحدي الأكبر .
فكم منّا يملك الشجاعة ليعيش بقلبٍ مفتوحٍ كالنافذة ، يسمح للضوء بالدخول ، حتى لو دخلت معه الحشرات والغبار ؟ كم منّا يختار أن يرقص تحت المطر ، رغم معرفته أن البرد سيليه ؟
اليوم ، بعد سنوات ، ما زلت أرى طيفها في أصواتٍ بعيدة ، في ضحكاتٍ تصلني من شارعٍ مظلم ، في عيونٍ غريبةٍ تلمع للحظةٍ كأنها تختزل كل ما فات . أعرف أنها لن تعود ، وأعرف أن ” الوطن المؤقت ” الذي سكنته في عينيها لم يعد إلا ذكرى ، لكن الذكرى هنا ليست جرحًا ، بل وشمًا نُقش بلون الشوق . فالوشم لا يؤلم عندما نلمسه ، بل يضحك كطفلٍ يعرف أن الألم كان ثمنًا للجمال.
فيا لَهُ من سحرٍ غريبٍ تلك القلوب التي تُحبّ بلا حدود ، والتي ترفض أن تسجن الحبّ في سجن النهايات . قد نُطلق عليها اسماءً كثيرة : حماقة ، خيال ، ضياع . لكنها في الحقيقة أصدق أشكال الوجود . لأننا ، في النهاية ، لسنا سوى قصصٍ نرويها لأنفسنا قبل أن يرويها غيرنا .
وهل هناك أجمل من أن تكون قصتك مليئةً بفصولٍ لم تُكتب للنهاية ، لكنها كُتبت ليُقال : ” عاشَ ذلك الإنسانُ بكلّ ما فيه ، حتى وإن كان كلّ ما فيه مجرّد قلبٍ يحمل عجزًا جميلًا “.
فإن سألتَني يومًا :
هل يستحق الألمُ أن نعيشه مرتين ؟
سأجيبُ بصدقٍ : نعم ، فبعض الآلام تُشبه النجوم ، تُضاء في سمائنا لتبقى دليلًا على أننا كنّا أحياءً بما يكفي لنُحبّ ، وننكسر ، ونُضيء 💔
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه