تحليل نقدي إبداعي لقصيدة ( الليل والدموع ) لقاضي الشعراء محمد طلبه شعبان

انخطاف الجمال وافتتان الكلمة
في قصيدة “الليل والدموع”، يتخذ قاضي الشعراء من الجمال الأنثوي مدخلًا إلى عوالم وجدانية مشبعة بالدهشة والارتباك، حيث يتقاطع الحسي بالروحي، ويتكاثف حضور المحبوبة ليصبح كونًا مستقلاً يختبر فيه الشاعر حدود اللغة، واتساع الصور، وضيق الحرف أمام فتنة لا يُطال مداها.
هذه القصيدة ليست مجرد غزل عابر،
بل هي انخطاف وجداني يتلبّس الشاعر ويستدرجه إلى تخوم الشعر، فيتداخل الليل بالدموع،
والبحر بالمجاز، والصمت بالهمس، ليتحوّل النص إلى مرآة للوله العاقل، والشوق الممزق،
والحب الذي يسمو حتى في حرمانه.
منذ مطلع القصيدة، يغمرنا قاضي الشعراء بوصف تشكيلي مبهر لجمال المحبوبة،
شقراءٌ بلون الفُل بشرتها
وحُمرة الخد وردٌ للوصيفاتِ
اللون الأبيض الذي يرمز للطهر، يتجاور مع حمرة الخد التي توحي بالحياة والأنوثة الناضجة.
ثم تمضي الصور لتنسج عوالم ساحرة،
والعين بحر وأنهار وأمواج
أما الرموش فشطٌ للبراءاتِ
ليست العين فقط مصدرًا للسحر، بل كونًا مائيًّا واسعًا، أما الرموش، فهي مرافئ للبراءة، في تمازج أخّاذ بين الفتنة والصفاء.
حين تضيق اللغة أمام الحضور الطاغي،
بالأمس زارتني يا ويح شعري
أضاق البحر أم جفّت مجازاتي
إنها ليست فقط زيارة جسدية، بل حضور يُربك الإلهام ذاته. فيسأل: هل ضاق البحر ـ رمزية المخيّلة ـ أم أن المجاز خذله؟ لقد تعثرت الكلمات أمام فيض هذا الجمال.
شوقي لها كإعصار يُلاحقني
ونبض القلب قاسمني عذاباتي
الشوق هنا ليس عاطفة حالمة، بل إعصار مطارد، لا يمنح هدنة، بل يقتسم مع القلب نبضه، ويغذيه بالألم. ثم نراه يتقاذف بين الموج واليابسة، في مشهد درامي يعكس صراع البقاء،
وكفُّ الموج يقذفني ليابسةٍ
فتنجيني من الموت استفاقاتي
الاستفاقة من الحلم أو العشق، تصبح لحظة نجاة من غرق حتمي.
حين يحتجب الشعر أمام الجمال
قد كنت أقرِض الشعر مزهوًّا
وفي حُسنها احتجَبتْ قصيداتي
هذه المفارقة المؤلمة بين الشاعر المُنتشي ببيانه،
وبين لحظة يتلاشى فيها كل ذلك أمام فتنة لا توصف. الجمال هنا لا يُلهم، بل يُخرس، ويجعل القصيدة تتوارى خجلاً.
فما لها دموع الشعر عاصية
يعيشُ الشعرُ إملاقَ الكِناياتِ
الدموع لا تُسكب، والشعر فقير أمام الكناية. هذه ذروة المأساة الفنية.
ثم يأتي الولاء المطلق للكلمة والهمس
إني وأيم الله مفتون بطلعتها
وأشتهي للهمس مراتٍ ومراتِ
قاضي الشعراء مفتون حتى العظم، يشتهي الهمس لا من باب الرغبة فحسب، بل لأنه شكل من أشكال التواصل الخفي العميق. هذا الهمس يتحول إلى حرارة تحرق الكلمات،
فهمس الحرف يكويني بأنفاس
تذوب من دفئها جماداتي
إنه همس يذيب الجماد، ويعيد ترتيب الحواس. هذه ليست لغة غرام، بل احتراق داخلي بالكلمة والأنفاس.
لذ فالحب هو… ذروة العطاء وذروة الحرمان
وينثرني رحيقًا للأُلي عشقوا
ويحرمني بلُطفٍ من خياراتي
قاضي الشعراء يُمنح للآخرين، يُبذل عشقًا، لكنه يُمنع من أن يختار أو يُختار. وهنا تظهر فكرة “الحب القدري”، الذي لا يتحكم فيه المرء، بل يسير فيه مسلوب الإرادة.
خاتمة القصيدة حالمة بنبرة إنسانية عالية،
لا تحرم البدر من ليلٍ يسامره
عساه ينعم في دمع المناماتِ
قل للقساة بأن الحب مكرمة
والروح تسمو ويعلو بالمقاماتِ
في هذه الختاميات، يعيد الشاعر الاعتبار للحب كقيمة إنسانية، لا كضعف أو خذلان. الحب، كما يراه، مكرمة ترفع الروح، لا تهبط بها، وتمنح الكائن أفقًا روحيًّا يتجاوز الماديات.
“الليل والدموع” ليست مجرد قصيدة غزل، بل مرآة لحالة شعرية فريدة يتلاقى فيها الجمال بالخذلان، والشوق بالحرمان، واللغة بالعجز.
قاضي الشعراء رسم في هذه القصيدة مشهده الوجداني الكامل، حيث يتساوى الهمس بالقصيد، والنظر بالنجوى، في نصّ يُقرأ لا بالعين وحدها، بل بالحسِّ الذي لا يُكذب.
( الناقد الأدبي الكبير الدكتور عبد الجيد بحيري وتحليل قصيدة الليل والدموع لقاضي الشعراء )