أيمن شاكر يكتب : أجنحة الأحلام .. حين تُحَوَّلُ إلى سفنٍ تبحر في محيط الواقع

بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب ✍🏻
في سكون الليالي ، أو تحت وهج النهار ، تولد في أعماقنا كواكب متلألئة نسميها “أحلامًا”.
بعضها يلمع كالنجم الثاقب ، يُنير الدرب ويصل صاحبه إلى شاطئ اليقين . وبعضها يتلاشى كالسراب ، يلمحه صاحبه من بعيد فلا يدركه أبدًا. فما الفاصل بين حلمٍ يتحول إلى نسيج حياتنا ، وآخر يظل حبيس الصدور ، مجرد همسة حزينة في زوايا الذاكرة ؟ السر ، أيها الحالم ، ليس في جمال الحلم ذاته ، بل في تلك اللحظة المصيرية التي نقرر فيها :
أيكون هذا الحلم مجرد ضيف عابر في مملكة الخيال ، أم نصنع له جسدًا يسير على الأرض ؟
إن الفارق الجوهري بين من يقطفون ثمار أحلامهم ومن يكتفون بمراقبتها من وراء حاجز الأمل ، هو ذاك التحول السحري من “التمني” إلى “الهدف”. فالتمني هو حلم بلا عظام ، بلا شراع ، بلا بوصلة . هو أن تقول : “يا ليتني غنيٌ” ، ثم تجلس تنتظر أن تمطر السماء ذهبًا .
هو أن تتخيل نفسك على منصة التكريم ، بينما يدك لا تمسك قلمًا لكتابة أول سطر في رحلتك. أما الهدف ، فهو التمثال الذي ينحت من صخرة التمني الخام .
هو الحلم وقد ارتدى رداء العمل ، وحمل خريطة الطريق ، وأقسم على موعدٍ مع النجاح. هنا يصبح الحلم كيانًا حيًا ، له نبض ، وله مسار ، وله موعدٌ معلومٌ للوصول.
ولكن .. احذر !
فليس كل ما يُسمى “هدفًا” يصلح أن يكون سفينةً تبلغ شاطئ الحلم . كم من إنسان رسم هدفه على ورقة بيضاء ، ثم وجد الريح تمزقها قبل أن يبحر ! هذا لأن بناء الهدف فنٌ دقيقٌ ، يحتاج إلى حكمة البنَّاء الذي يضع أساساته على صخر الواقع لا على رمال الخيال الطائش. فالهدف الذي يحلق في سماء المستحيل ، كمن يريد أن يلمس القمر بيدٍ عارية ، سرعان ما يصطدم بقوانين الأرض والجاذبية .
ومع هذا ، لا ينبغي له أن يزحف على الأرض خائفًا ! عليه أن يرفع رأسه نحو الأفق البعيد. هدف “مقبول” في الدراسة ، مثلًا ، هو هدفٌ خانع ، لا يُشعل في النفس فتيل التحدي ، ولا يستحق أن يُسمى حلمًا ، بل هو استسلامٌ للسهل الممتنع.
وما أقسى أن يكون الحلم غائمًا كضباب الصباح ! “أريد أن أكون ناجحًا” .. ولكن ما ملامح هذا النجاح ؟ ” أريد أن أتعلم ” ..
ولكن أي بحرٍ من العلم تريد أن تغترف منه ؟ الغموض قاتلٌ للأحلام . الهدف الحقيقي هو ذلك الذي يُحدد بدقة متناهية ، كأنك ترسمه تحت مجهر. لا يكفي أن تقول ” سأتفوق ” .
بل قل ” سأحقق تقدير امتياز في الفصل الأول “. هنا يصبح النجاح ملموسًا ، قابلاً للوزن والقياس ، تعرف لحظة بلوغه كما تعرف لحظة شروق الشمس.
ثم يأتي عنصر الزمن ، ذلك الساحر الذي يحول التمنيات إلى واقع أو إلى أطلال . الهدف بلا تاريخٍ محدد هو حلمٌ معلقٌ في الفراغ ، بلا جاذبية تُسحبه نحو الأرض. كم من أمنيةٍ جميلةٍ ماتت لأن صاحبها تركها بلا موعدٍ نهائي !
“سأبدأ مشروعي”.. متى ؟ “سأتعلم اللغة” .. في أي عام ؟ الزمن المُعلن هو الدافع الخفي ، هو الجرس الذي ينبه الغافل ، والنار التي تحرق رواسب التسويف. هو الذي يحول الرغبة المجردة إلى التزام مقدس.
تأمل فيمن حولك. ذلك الشاب الذي حلم بالتميز الأكاديمي ، فلم يكتف بالحلم ، بل حدد درجاته المستهدفة ، وزع جهده على الأشهر ، وراقب تقدمه أسبوعًا بأسبوع. وتلك السيدة التي أرادت مشروعًا صغيرًا بعد التقاعد ، فدرست السوق بواقعية ، وضعت خطة مالية محددة ، وحددت موعدًا لافتتاح باب حلمها. وهذا المخترع الذي يريد تغيير العالم ، فيقسم رحلته إلى مراحل ، كل مرحلةٍ لها إنجازٌ ملموسٌ وموعدٌ محسوم. هؤلاء لم ينتظروا صدفةً تعيد ترتيب النجوم لصالحهم ، بل بنوا سلالمهم بيدهم ، حجرًا حجرًا ، وفق تصميمٍ واضحٍ متين .
أما أولئك الذين تعلقت قلوبهم بأحلامٍ عظيمةٍ ثم رأيناهم بعد أعوام في نفس المكان ، يتنهدون على فُرَصٍ تبددت ، فأحلامهم كانت كالطائر الذي يرفرف في قفص التمني . إما أن الهدف كان سرابًا لا يقرب من الواقع ، أو أنه كان صغيرًا فاقدًا لشرارة التحدي ، أو غائمًا لا يُرى معالمه ، أو غير قابلٍ لأن يُقاس فيُعرف مدى القرب منه أو البعد ، أو معلقًا في فضاءٍ بلا زمنٍ فاستدارت عليه الأيام وغادرته الأحلام.
فإذا كانت النجوم تُضاء في سمائك ، وأمنياتُ القلب تُغني خيالك ، فلا تدعها تظل حبيسة عالم الأوهام . اخرج بها إلى نور الفعل . اجعلها طموحًا واقعيًا ، واضحًا كالنقش على الحجر ، قابلًا لأن تُقاس خطواتك نحوه ، محددًا ببوصلة الزمن الثابتة . لا تكن كمن ينتظر المد ليجرفه إلى شاطئ المجد ، بل ابنِ سفينتك بيديك ، واشرع أشرعتها بإرادتك ، وابحر بها في محيط العمل الدؤوب . فالأحلام الجميلة لا تكفي وحدها لصناعة الواقع الجميل ، لكنها البذرة . والأهداف الواعية هي التربة والماء والشمس .
والزمن .. هو الحصاد .
اصنع من حلمك هدفًا .. ثم اصنع من هدفك مصيرًا ، هكذا فقط لا تبقى نجمةً بعيدةً في السماء ، بل تصبح نورًا تمشي به على الأرض .
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه