أيمن شاكر يكتب : أنتِ .. النارُ التي تُنيرُ جراحي والدمعُ الذي يُنقذني من الاحتراق

بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
نائب رئيس قسم الأدب ✍🏻
ها هي الذكريات تعود كقطارٍ ليليٍّ يثقب صمت الوجود ، حاملاً معه أصداءَ خطواتك التي ما زالت تدقُّ في أعماقي كنبضٍ خارجٍ عن السيطرة .
كلُّ شيءٍ حولي صار شاهداً على غيابك ، حتى الهواء الذي نتنفسه صار ثقيلاً بغياب أنفاسك التي كانت تُعيد إليَّ الحياة .
فالفراق لم يكتفِ بسرقةِ ابتسامتك من سماء أيامي ، بل مزّقَني إرباً إرباً ، وجعل من قلبي أطلالاً لا يُرفع فوقها إلا علم الأسى .
كنتِ تحملين بين يديكِ مفتاحَ روحي ، فلمّا غبتِ ، تحوّل العالم إلى متاهةٍ مظلمةٍ أسير فيها بلا بوصلة . كلُّ شيءٍ يُذكّرني بكِ ، حتى الظلالُ تتلاعب بي ، كأنها تُحاكي شكلَكِ كلّما أدارتني الريحُ نحو الفراغ .. صرتُ أعادي النورَ لأنّه يمنحني الأملَ الكاذبَ بأنّكِ قريبة ، وأعادي الليلَ لأنّه يُجبرني على مواجهة وحشةِ السريرِ الذي صارَ متّسعاً لجراحي فقط . حتى الكلماتُ خانتني ، فما عادت تُعبّر إلا عن غيابك ، وكأنّ اللغةَ كلّها صارت حروفاً ناقصةً بلا معنى.
أتَعَرفين كم مرّةً همستُ باسمكِ في عتمةِ الغرفة ، آملاً أن تخرجي من بين الجدران كشبحٍ يُنهي عذابي ؟
لكنّ الجدرانَ صامتةٌ ، والوقتُ يُمارس قسوته ببرودة . الفراقُ علمني أن الحبَّ قد يكون سجناً بلا قضبان ، وأنّ القلبَ قد يُصبح غريباً عن صاحبه إذا احتجزَ آخرَ بداخله . صرتُ أرى وجهكِ في كلِّ مكان ، في أوراق الشجرِ التي تسقط ميتةً ، في قهوة الصباحِ التي تفقدُ دفئها سريعاً ، في الضحكاتِ البعيدةِ التي تصلُني كصدى من عالمٍ آخر . حتى أحلامي لم تسلم منكِ ، تأتيني فيها كضيفٍ ثقيلٍ ، ثم تختفين مع أولِ خيطٍ من الفجر ، تاركةً إيايَ أقاتلُ كي لا أستيقظ.
لم أكن أعلمُ أنّ الغيابَ قد يكون أقسى من الموت ، فالموتُ يُنهي الألم، أما أنتِ فما زلتِ هنا … في نبضةٍ تتردّد ، في ذكرى تتجدّد ، في جرحٍ يرفضُ الالتئام ، صرتُ أعيشُ كشجرةٍ جرداءَ من أغصانها ، لا تحملُ إلا صوتَ الريحِ الذي يئنُّ عبرَ فجواتِ القلب . حتى دموعي صارتْ غريبةً ، تخرجُ ساخنةً كالحمم ، ثم تتحوّلُ إلى أحجارٍ تثقلُ جفوني . كلُّ ما حولي يُشبهُكِ ، وكلُّ ما فيّ يُشبهُ قتلاً بطيئاً.
أريدُ أن أراكِ … ليس لأنّ الزمنَ قد يمنحنا فرصةً ثانية ، بل لأنّي أخشى أن تتحوّلَ ذكراكِ إلى أسطورةٍ أخبرها لنفسي كلَّ ليلةٍ كي لا أنسى كيف يُحبّ البشر .
أريدُ أن أراكِ لأقولَ لكِ إنّ كلَّ خطوةٍ مشيتها بعيداً عنّي كانت تُنزفُ شيئاً من سمائي ، وأنّ العالمَ كلّه صارَ عدواً لأنّه لم يعد يحملكِ . لو يعودُ بنا الزمنُ ، لربما اخترتُكِ ألفَ مرّة ، حتى لو كنتُ أعلمُ أن النهايةَ ستكونُ كالحُلمِ نفسه : جميلةٌ ومستحيلة.
ها أنا ذا … أصرخُ في صحراءِ الوجود ، وأكتبُ إليكِ بدمائي كلماتٍ لن تقرئيها ، لأنّ الحروفَ تموت قبل أن تصلَ إلى سمائكِ . لكنّي سأظلُّ أردّدُ حتى النهاية : إن كان الرحيلُ قد صنع منّي غريب في هذا العالم ، فليكن لقاؤنا الأخير هو الجنّة التي سأعبرها بقلبي المكسور ، حاملاً إيّاه بين يدَيَّ كطفلٍ مات قبل أن يسمعَ قصّتَه .
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه