Uncategorized

الباحث والأديب حسين الجوادي يكتب: الفاشر بين الرصاص والعطر

في الغرب السوداني حيث كانت الفاشر تُشبه عقدًا من الرمل والضوء، تسكنها أرواح النبلاء ويزورها الغيم كما يزور الحلم قلبَ شاعرٍ نبيلٍ، هناك اليوم مأتمٌ مفتوحٌ على اتساع الأفق، مدينةٌ كانت مهوى القوافل ومهبط الكرامة، تحوّلت إلى جثةٍ تتقاسمها البنادق، وإلى صدىً لبكاءٍ طويلٍ يُسمع في الليل من وراء الركام.

 

الفاشر تُذبح.. نعم تُذبح، لا بسيوف الغزاة بل بأيدي من تزيّنوا بالعروبة ولبسوا ثوبها لستر الخيانة، مِن هناك تصعد رائحة الدم إلى السماء، تختنق بها الطيور وتغيب الشمس خجلاً من مشهدٍ لا يشبه إلا يوم القيامة، لقد دخلت ميليشيا الدعم السريع إلى الفاشر كما يدخل الجراد إلى الحقل، لا لتُقيم دولة بل لتُقيم مأتمًا للإنسانية، يحرقون البيوت كما تُحرق الذكرى، ينهبون الأسواق كما يُنهب الحلم، ويطاردون الأبرياء في الأزقة الضيقة كما يطارد الذئب فريسته، في كل بيتٍ جثة، في كل شارعٍ رماد، في كل عينٍ سؤال:

من أين جاء هؤلاء؟ ومن أي جحيمٍ خرجوا؟

 

لكنّ الجواب لا يحتاج إلى نبوءة:

جاءوا من خزائن الإمارات، من تحت موائد القصور التي تُطعَم فيها الذئاب بدل الأطفال، ومن جيوب الأمراء الذين يظنّون أن بوسعهم شراء الخرطوم كما يشترون فريق كرةٍ أوروبي.

يا للعار! الإمارات التي تبني الأبراج في دبي، تهدم المدن في دارفور

تدفع المال لقتل السودانيّ، ثم تتحدّث في المؤتمرات عن “السلام العربي”! أيّ سلامٍ هذا الذي يأتي من يدٍ تموّل الرصاص وتتبرّع بالكفن؟ أيّ أخلاقٍ تبقى في دويلةٍ تُرسل السلاح في الصباح وتُغنّي للتسامح في المساء؟

 

إنّ ما يجري في الفاشر ليس “صراعًا داخليًا” كما يدّعي المرتزقة الإعلاميون، بل هو مشهد من مسرحيةٍ إماراتية قذرة، كتبها المال وأخرجها الطمع، ودماء الأبرياء هي جمهورها الصامت، كلّ طلقةٍ تُطلق هناك تحمل ختمًا إماراتيًا باردًا: “تمّ التمويل”، وكلّ جريمةٍ تُرتكب هناك، تحمل توقيعًا ذهبيًا من قصورٍ تعرف كيف تُخفي القبح بالعطور.

 

يا أهل الفاشر.. أنتم لا تواجهون ميليشيا فحسب، بل تواجهون منظومةً كاملة من النذالة السياسية، تُدار من بعيد بأزرار النفط وخيوط الذهب الأسود، لقد أرادوا أن يجعلوا من دارفور جرحًا مفتوحًا في الجسد العربي، حتى تظلّ الخرائط العربية مرسومة بمداد الشركات لا بعرق الأبطال، لكن اعلموا أن التاريخ لا يُكتب في البورصات، التاريخ يُكتب بدم الشرفاء، وأنّ الفاشر -وإن خُذلت اليوم- ستصير غدًا رمزًا للقيام من تحت الركام، ستعود لتقول للعالم: “لقد مرّت علينا ميليشيا تُشبه الطاعون، ومموّلون يُشبهون الشيطان، لكننا لم ننكسر”.

 

يا قادة الإمارات.. ما أشدّ ما لوّثتم به وجه العروبة!

لقد ظنّ العالم أن الخيانة تُشترى بصمت، لكن صوت الفاشر فضح صفقاتكم، ظننتم أنكم تصنعون المجد بالمال، فصنعتم العار بالذهب، إنّ الأمم لا تُبنى على الرشوة، ولا تصنع الهيبة بمستودعات السلاح بل بالضمير، وهذا ما فقدتموه منذ أن صرتم تُقايضون كرامة الشعوب بالمصالح، في الفاشر يمشي الأطفال حفاةً فوق الزجاج، لأنّ ميليشياكم سرقت نعالهم وأحلامهم، وفي الفاشر تُؤذّن المساجد في مدنٍ خاليةٍ من الناس، لأنّ الطائرات المسيّرة التي اشتريتموها من الغرب قصفت حتى المآذن، وفي الفاشر تختبئ النساء في الآبار القديمة ليس خوفًا من الموت، بل من الاغتصاب الذي صار “تكتيكًا حربيًا” بتمويلٍ عربيٍّ خالص!

 

أهكذا تكون العروبة؟ أهكذا تُنفق الثروات؟

أيّ سقوطٍ هذا الذي يجعل من النفط لعنةً على أصحابه ومن المال سكينًا في صدر الأشقاء؟

إنّ ميليشيا الدعم السريع -مهما طال بطشها- فإلى مزبلة التاريخ وإلى زوالٍ محتوم، لأنّها قامت على الكذب، وسُقيت بالخيانة، وسُيّرت من عواصم لا تعرف إلّا البذخ والخراب، وسيأتي يومٌ تُحاكم فيه الأسماء بالأفعال، وتُقرأ الفاتحة على أموالٍ أُنْفقت لتدمير وطنٍ عربيٍّ عريق، فلتخجلوا يا أصحاب الأبراج الزجاجية، فدم الفاشر لا يُغسل بالتصريحات، ولا تُمحى الجريمة ببيانات “القلق العميق”.

 

الفاشر اليوم تكتب بدمها وصيتها للعرب:

“احذروا من المال حين يُغوي، ومن الأخ حين يبيعكم، ومن الصمت حين يصير مشاركة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى