الذكاء الاصطناعي وصناعة القرار الإداري: بين الكفاءة القانونية والمخاطر الدستورية بقلم المستشار محمود الزعيري

مع التقدم الهائل في تقنيات الذكاء الاصطناعي، بدأت بعض الإدارات العامة في عدد من الدول تجربة استخدام أنظمة ذكية في اتخاذ قرارات إدارية، مثل منح التراخيص، أو تقييم الملفات، أو حتى تخصيص الموارد. ورغم ما توفّره هذه التقنية من كفاءة وسرعة ودقة، إلا أن استخدامها في مجال القرار الإداري يثير جدلاً قانونيًا ودستوريًا لا يمكن تجاهله.
الكفاءة القانونية في استخدام الذكاء الاصطناعي في القرار الإداري
تلجأ بعض الإدارات الحديثة إلى خوارزميات تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات المواطنين، واتخاذ قرارات إدارية تخصهم (مثل منح دعم، رفض ترخيص، أو حتى ترقية موظف).
هذه الأنظمة توفّر:
• سرعة عالية في معالجة الملفات
• حياد شكلي بسبب غياب “التحيز البشري”
• تقليل الهدر في المال والموارد
لكن هذه الفعالية لا تعني بالضرورة أن القرار مشروع من الناحية القانونية، خصوصًا إذا افتقر إلى تسبيب واضح أو أُتخذ على أساس بيانات غير دقيقة
فهل يمكن إسناد سلطة اتخاذ القرار إلى خوارزمية؟ وهل يتفق ذلك مع مبدأ “المسؤولية الإدارية” و”الرقابة القضائية”؟ إن منح الآلة سلطة اتخاذ القرار يمس جوهر الدولة القانونية التي تقوم على مبدأ خضوع الإدارة للقانون، وإمكانية مساءلتها عن قراراتها.
المشكلة الأساسية تكمن في غياب الشفافية؛ فالقرارات الإدارية يجب أن تكون معلّلة وقابلة للفهم والتفسير، بينما تعتمد الأنظمة الذكية على معادلات معقدة قد لا يستطيع حتى الخبراء فك شفرتها. وهذا يُفرغ حق التظلم والطعن من مضمونه، ويعرّض مبدأ المشروعية للخطر.
ومن هنا، يجب ألا يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي كمجرد أداة تقنية، بل كمسألة قانونية تتطلب تنظيمًا دقيقًا. لا بد من وضع ضوابط تشريعية تُقيّد استخدامه، وتُلزم الإدارة بإبقاء عنصر بشري مسؤول عن القرار، مع تمكين الأفراد من معرفة الأساس الذي بُني عليه القرار واتخاذ الإجراءات القانونية ضده إن لزم الأمر.
إن المستقبل الرقمي لا يعفينا من احترام المبادئ القانونية التي تحمي حقوق الإنسان. وإذا كان الذكاء الاصطناعي أداة قوية، فإن القانون يجب أن يظل هو القيد الذي يوجّهها لا العكس.
الذكاء الاصطناعي قد يعزّز كفاءة القرار الإداري، لكنه ليس بديلاً عن الضمانات الدستورية. يجب أن يظل “الإنسان” – المواطن والقاضي – في قلب العملية الإدارية، وأن تخضع الآلة لمبدأ المشروعية لا العكس