اخبار اليوم

الكاتب الصحفى أيمن شاكر يكتب … الفراشة التي غادرت : رسالة وداع إلى القلب الذي لم يعد يتسع للحب

مقال أدبى

بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب ✍🏻

ليست النهايةُ دائماً انكساراً يُعلَنُ بصخب ، أو دموعاً تُراقُ في الظلام ، بل أحياناً تكون صمتاً طويلاً تُختَزَلُ فيه كلُّ الكلمات ، وهدوءاً يُطوي سِجِلَّ الألم دون إقرار بالهزيمة .
هذه رسالةٌ من قلبٍ عَلِقَ في مُتاهةِ الغياب ، يُعلِنُ فيها أنه لن يُصارعَ الفراغَ بعد اليوم ، ولن يُجرِّبَ تفسيرَ الصمتِ الذي صار لغةً وحيدةً بين طرفَيِ الحكاية .
إنه يَعفو … لا لأنَّ الذكرياتِ قد مُحِيَت ، بل لأنَّ الجروحَ تحتاجُ إلى هُدُوءٍ لِتَتحوَّلَ إلى نُدوب.

الغفرانُ هنا ليس نسياناً ، بل هو اعترافٌ بأنَّ الأشياءَ التي كسرتها أيادينا لن تعودَ كما كانت ، حتى لو حاولنا لَصْقَها بنفسِ الدِّقة .
فالغيابُ يُغيِّرُ خريطةَ القلبِ كلَّ مرة ، يَصنعُ فراغاتٍ لا يُمكنُ لأحدٍ أن يملأها ، لا أنتَ الذي صنعتَها ، ولا غيرُك الذي قد يأتي . هناك كراسٍ تبقى فارغةً في زوايا الروح ، حتى لو عادَ الجالسُ عليها ، فهي لم تعدْ تناسبه ، ولم نعدْ نحتملُ صمتَه . الغفرانُ هو أن نُسلِّمَ بأنَّ الماضي صارَ غريباً ، وأنَّ الحاضرَ لم يعدْ ينتظرُ أحداً .

ربما كان البُعدُ خلاصاً ، فليس كلُّ قلوبِنا قادرةٌ على استيعابِ الحبِّ مرتين . هناك قلوبٌ تُصمُّ أبوابَها بعد الرحيلِ ، لا خوفاً من الألم ، بل حِرصاً على أن تظلَّ الذكرياتُ كما هي : نَقِيَّةً ، لم تَشوِّهها محاولاتُ الإصلاحِ الفاشلة .
فالعتابُ لا يُجدي حين يصيرُ الصمتُ لغةً مُشتركةً ، وحين تتحوَّلُ الأسئلةُ إلى شظايا تُؤذي بدلَ أن تُجيب .
لماذا نُهدرُ الوقتَ في تبادلِ الاتهاماتِ ، ونحن نعلمُ أنَّ الكلماتَ لن تعيدَ رسمَ ما انمَحى ؟!

فالغيابُ ليس جريمةً تحتاجُ إلى كفارةٍ ، ولا خطيئةً نُقدِّمُ لها الأعذار ، هو ببساطةٍ نهايةٌ لِحلمٍ جميلٍ ، لكنَّه لم يكتمل . قد نُحاولُ تبريرَه ، أو نبحثُ عن سببٍ لنُلقي عليه اللوم ، لكنَّ الحقيقةَ الوحيدةَ هي أنَّ بعضَ اللحظاتِ تُولدُ مُعلَّقةً بين السماءِ والأرض ، لا تنتمي إلى الواقعِ ولا إلى الخيال . نُحبُّها لأنها مرّتْ كالفراشاتِ : خفيفةً ، ملونةً، عابرةً . لكننا لا نستطيعُ إمساكَها دون أن نقتلها .

وفي النهاية ، ليس المهمُّ كيف بدأنا ، بل كيف نُودِّعُ ما انتهى . سأعفيكَ من عقدةِ الذنبِ التي علَّقتَها على كتفيَّ ، ومن أسئلتي التي صارتْ أثقلَ من جواباتِك . سأعفيكَ من انتظاري الذي صارَ عبئاً ، ومن حنيني الذي لم يعدْ يليقُ بكرامةِ الحب . لن أطلبَ تفسيراً لغيابٍ لا يُصلحه حضورٌ ، ولن أُلقي على نفسي عبءَ البحثِ عن ذنبٍ أختبئُ خلفه . أريدُ أن أتعلمَ كيف أُغلقُ البابَ بهدوءٍ ، دون أن أندمَ على مَن دخلوا أو خرجوا.

ربما ستظلُّ فراشتُكِ تُحلِّقُ في ذاكرتي حيناً ، لكنني سأتركُ لها مساحةَ السماءِ التي تليقُ بها ، دون أن أحاولَ قَصَّ جناحيها لأحميها .
لأنَّ الحبَّ الحقيقيَّ لا يُمسكُ ، بل يُطلِق ، والغفرانُ ليس نهايةً ، بل بدايةٌ لسلامٍ نمنحُه لأنفسنا قبلَ أيِّ أحد . سلامٌ على ما مضى ، سلامٌ على الألمِ الذي صارَ ذكرى ، سلامٌ على القلبِ الذي قررَ أن يتسعَ للحياةِ من جديد.

حلمٌ جميلٌ … وها هو ينتهي .
🦋.. كالفراشةِ التي لا تُلامُ لأنها اختارتْ أن تحترقَ في نورِ الشمسِ بدلَ أن تعيشَ في ظِلِّ الأمسِ .

سنلتقى إن كان فى العمر بقيه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى