مشاهير

بين المجاملة والانتقاص – مصائر المتحققين على يد النقّاد

بين المجاملة والانتقاص – مصائر المتحققين على يد النقّاد

دراسة في قصيدة “السفير العاشق

لعل أكثر المبدعين المغموطين حقًّا المظلومين نقدًا هم المتحققون خارج مضمار الأدب؛ ذلك أن المقارِب لأعمالهم مُتَّهَم دائمًا بالتأرجح بين المجاملة أو الحقد.

صَعْب على الناقد – أيِّ ناقد – أن يمسك بمبضع جراح؛ فيأمن على نفسه الانزلاق إلى أحد القاعَين، لكنه تحدٍّ لذيذ، وزاوية جديدة، ومدعاة فخر “لي” أن أدلوَ بدلوي في عمل إبداعي شديد الخصوصية، لرجل تحقَّق حكمةً وعلمًا، قبل أن يتدثر برداء القصيد شاعرًا، غير منتقِص ولا مُبالِغ، وحسبي من التسابق شرَفُه، ومن السعي نية الوصول!

لذلك حين أحلل قصيدة “السفير العاشق” فلا بد أن أنحي عنوان (المستشار محمد طلبة شعبان)، من رؤيتي لمقطوعة عازفة، فأتسمَّع إلى لحنها الفريد، غير مهتم بمقدمة المذيع، ولا تعقيب الخاتمة.

وليس ذلك تغييبًا منا للمؤلف؛ هَوَسًا بالنزعة (الرولانبارتية) وقد كفر بها صاحبها نفسه، وإنما تمييزًا بين الإبداع وصاحبه، ومحاولة لقراءة النصّ دون تأثر بمحبة ناسجِه، وصداقته التي أفخر بها وأسعد!

يقول الشاعر:

والطَرفُ يرمي للمسافر نظرة لكأنما يعطي الورى إنذارا

والكف صافح كَفّها مُتمنِعاً لمّا تجاوز ظِلها الاسوارا

والعينُ أبدت للعيون مخافة وتبادلت عبر الجوى أسرارا

وخمارها الدُري حاصر خُطوتي هل أستطيع من الجمال فرارا؟

إن إلقاء الطرف النظر للمسافر يُعدّ من معهود الصور؛ فلا شك أن الافتراق هو مقرُّ ملء العين بآخر أطياف المحبوب.. لكننا نُفجع بأن جعل الرؤية إنذارًا، ومن عادتها -في هذا الموضع- الحنو والتعطف، ثم إن الكف تمنّعت عن التسليم مع اقترابها، حقيقة لا ظلًّا. هي حالة كاملة لتفرق بعد اجتماع، أو لاجتماع بعد تفرُّق، ينظر فيه كل طرف إلى فِعْل الغيبة على الآخر، لكن الشاعر يعترف ها هنا بأنه رغم هذا التجنب النسبي، وتعمّد الحذر، لا يستطيع منه محبوبته فكاكًا؛ فهو المحاصَر على رغبة منه، المستسلم لأنه لا يملك جرأة المحاربة!

هي صورة مربكة، لا معروفة، ولا مطروقة، تبدأ بما يشبه النسيب العربي القديم، في صورة خلخلة البنى التقليدية..

ولا يُخفَى صداحة الوزن وارتفاعه، وثقة الراء المفتوحة في نهاية البيت التي تجاوزت كونها حرف رويٍّ لتصبح نوعًا من الاعتزاز بالذات المحتبَسَة في هذا البعد العشقيّ!

ومن دون لوغاريتمات نقدية، وتمترس وراء المصطلحات التي تحيل الكاتب إلى الضبابية والقارئ إلى الفراغ، فإن في هذه المقطوعة صورةً غزليةً مخالفةً لما عرفناه في الأدب العربي، من كون المرأة مطلوبة لا طالِبَة، ومرغوبًا فيها لا راغبة، وإنما نلمح انعقاد المحبة بين طرفين متساويين؛ فالعين تخاف العين والخمار يحاصر وهي مترددة قلقة.

وحقيبة السفر التي في جنبنا أبدت بنا أحصتْ لها الأسفارا

وظننتِ أني هانئ في غُربتي وأغوص في جُب الهوى أمتارا

ياويح (ليلى) حين تُحرم قيسَها والشر يخسِف للدجى أقمارا

وغريمنا يرمي الضياء بعتمة فنزيده من شمسنا مقدارا

وبذرت في أرض المحبة حنطتي فلقيت في يوم الحصاد غبارا

وأنا بعين حبيبتي متبتل لا تستطيع بغيرنا إبصارا

ثم يتكشف شيء من الستار حين نعرف أن هذا الحذر رغم كل الشوق ليس افتعالًا، وإنما درجة من المصالَحَة للحبيب العائد إلى حِضْن محبوبته، بعد فراق ظنَّه (وبعض الظن إثم) هناءة، فإذا بالنبض يخونه، فيهرع إليها، والجوارح تجري عليها، يستعيد خطوب الليالي السابقة، فيزيد شوقًا إلى الانتقام الممتع من كل مظاهر الأسى بمزيد من الانغماس في أحضانها، لينهي هذا المقطع بما اعتدناه منه.. الإدهاش؛ مُصوِّرًا نفسه بقيس ليلى، والغربة بآلات حرمان، (ولا يفوتنا دلالة البناء لغير الفاعل الواضح “حين تُحرم قيسها”، إنه الاعتذار بالغياب القسري، والملاطفة بذكر (الشديد القوي) الذي يمنعه عن نفسه، ويبعده عن روحه!

ها قد عاد ليغفر ذلة رحيلٍ لم يتعمّده، واندفاع لا رعونة له فيه.. هل كانت الغربة امرأة أخرى؟ أو أرضًا أخرى؟ لا يهم.. لكنّ المؤكد أنها وطن حيث تصير الأنثى كهف الميلاد وسببَ النشأة، ويصبح الانغماس فيها عودةً لمسلَّمات الأمور، وسماحًا للأرض بأن تدور دورتها العادلة..!

ولننظر إلى عبقرية الـ”نا” في “لا تستطيع بغيرنا إبصارا”، حين يضع نفسه مع العين.. وللعين “إنسان”، فلا تصبُّرٌ ولا تلهٍّ!

فكتبت قِرْطاسي لبعض أحبتي طُهر المنازل يصطفي الأخيارا

ولعلَّه البيت المفتاح لفهم النص، رغم ما يثيره من غرابة في البدء تناسب الغربة التي يشكوها الكاتب، ولا بد للقارئ صافي الذهن أن يصل إلى هنا فيتساءل في دهشة حقيقية صنعتها الصورة؛ ما دخل المنزل بالحب؟ وعلام وصف الكاتب الطُّهْرَ؟ ثم إنه أنْبَتَ لهذا الطهرِ اصطفائيةً تليق بأنسنةٍ حقيقية للأشياء يختار بها الطيبين.. لا شك أن الحديث يتجاوز المحبوبة، ويكون تجريدًا صالحًا لمساحةٍ أوسَع.. إنه بارع في رسم صورة لا نعرف حتى اللحظة على أي وجه ستنطبق، وإلى أي شيء ستنتهي!

مدَّت لنا أيدي السماء جنودها والكلُ يسأل ما الذي قد دارا

ثم إني نظرت في الشعر العربي باحثًا عن صورة تشبه هذه، فلم أعثر عمَّن منح السماء يدين، وأطر بها جنودًا، لكننا نعرف أن جنود الله أسبابه المهيِّئة.

لحظة واحدة… ما الحاجة إلى مَنْطَقَةِ الصورة أصلًا، وهي في كل ذهن (في رأيي) جميلة؟! ولماذا البحث عن سبب التشبيه، وتفويت فرصة الاستمتاع بالجمال الناعم، البارز عن كل إطار؟!

ومَن الذي يلهو ويلعب خِفةً وطغى وأكثر في الفساد وجَارا؟

والغيم أمسك بالسماء غياثه ضجَّ الضياء من الخطوب وثارا

عَودٌ إلى محبوبتي أم الدُنا وحبيبتي أهدت لنا الازهارا!

في (عَوْدٌ) هذه ما دلّ على أن الشاعر نحا بالقصيدة إلى منطق الحكي، بانيًا صورة شعرية ذات خصوصية، واستطاع تطويع الاستطراد ومن ثم العودة إلى حكايته الأصلية رابطًا خيطًا دراميًّا فريدًا، فيه اعتراف نحن مجبرون عليه، بأنه لا يمنعه الوزن، ولا تعوّقه القافية، في الوصول إلى مراده، وأن الوزن الإيقاعي الذي يُجهِدُ تَعَلُّمًا غير الحاذقين (حتى إن الأصمعي فاته تعلُّمُه) لا يتعب القريحة الصافية، وأن من الشعراء من ينحت من صخر. نعم.. هذا صحيح، لكن دومًا ثمة أديب يغترف من بحر.

ألفيتها يزهو الربيع بحُسنها زادت بنا تلك السنون وقارا

ورفعت راياتي بأرض جميلتي ومضى بنا ركب العَلاء وسارا

وجعلتُ أعزف للمدائن ثورتي واللحن يصنع للوفا أوتارا

أشدو وأُسمِعُ للجميع ملاحمي فأنا ابن مصر تأزَّر الإكبارا

وقار السنوات التي تمرُّ فَرْضُ عَيْنٍ على كل محب لوطنه، متشوق للعودة إليه، فيرفع أشرعته ويزأر بهدفه في نهاية القصيدة مصارحًا، فلا يخبّئ، جاعلًا من هذه المقطوعة رحلة في استرجاع الوطن شعرًا كما استرجعه روحًا وفنًّا، ممهدًا للإمضاء في جانب اللوحة التي قام عليها من البيت الأول.

وأخو العدالة يحتفي ببسالتي فأزيده فوق الفخار فخارا

وقصائدي طيرٌ تَسابق للنُهى والحرف يسفك بعدنا الأحبارا

وحبيبتي مصريةٌ تاج الورى والقلب هامَّ بعشقها مختارا

في الحُبِ أقصى ما أكون تطرفا ومشاعري لا تقبل التكرارا

فلتكتبوا أني سفير حبيبتي ما هنتُ يوماً أو قَبِلتُ صَغَارا

من عبقرية الكاتب أن جعل الغربة مهمة مقدّسة، بأن كان لها السفير الناطق بصوتها في رحاب “الآخر”.

ولنعد إلى التصوير؛ “الحرف يسفك” هذه أيضًا غابة بكر تُكتب باسم الشاعر، وهي صورة شديدة الجرأة، كاشفة عن غيظ الفراق عن وطن كان (وهو بعيد) يتشوَّف إليه، ويتعلم منه، ويحفظه في غربته، ويذكره في وحدته، فإن لم يكن ذلك الحب فما الحب إذن؟!

أما بعد؛ فإذا كنتُ قد أمسكت بالمبضع، فلأفصل بين النص وصاحبه، ولأُقيِّم القصيدة لا كاتبها، فلا نفاق يُذمُّ، ولا بخس يُستقبح، بل لأنني أعلمُ (ويعلم الشعر) أن “السفير العاشق” كُتبت لا لتَتخفَّى خلف لقب قائلها، وإنما لفرض نفسها فرضًا في محافل الشعر الكبرى.

قصيدةٌ تنوءُ بخصوبتها عن الحاجة إلى أي تزيين إضافي، فائقة الجرعة المنضبطة؛ إن زادت تسمم النص، وإن قلت لم تشْفِ غليلًا. رشيقة على ما فيها من نضجٍ وتوهّجٍ وذاتية عامة (إن صح التعبير)؛ فبين مطلعها وختامها انصهرت كل الألقاب، وارتفعت راية الحرف.. الحرف وحده.. الحرف قبل كل شيء، لشاعر لم يدَّعِ الشعر… بل ترك الشعرَ يطالب باستحقاقاته. هذه قصيدةٌ لو نُزعت منها اسم صاحبها ما ضرَّها أن تكون من الفرائد، رافعةً من شأن كاتبها، مهما كان المقام.. ذلك أن الأدب القوي شاءت له إرادة الخالق أن يبقى!

أحمد صلاح هاشم

القاهرة

27 يوليو 2025

(السفير العاشق)

وذكرتُها لما تباسم ثغرها

والدمع يرسم للحنين مسارا

والطَرفُ يرمي للمسافر نظرة

لكأنما يعطى الورى إنذارا

والكف صافح كَفّها مُتمنِعاً

لمّا تجاوز ظِلها الاسوارا

والعينُ أبدت للعيون مخافة

وتبادلت عبر الجوى أسرارا

وخمارها الدُري حاصر خطوتي

هل أستطيع من الجمال فرارا؟

وحقيبة السفر التي في جنبنا

أبدت بنا أحصتْ لها الأسفارا

وظننتِ أني هانئ في غُربتي

وأغوص في جُب الهوى أمتارا

والنبض أهدى للحبيبة لهفتي

و جوارحي قد رددت أذكارا

فَجْرِي يُسلِم ليلتي فيعيدني

إصباحها لأصوغ فيه قرارا

والروح أدنت للرضاء تصبراً

فالله يقدر للفتي أقدارا

وطفقت أكتب للنجوم روايتي

يعلو الجبينُ وأقتفي الأحرارا

ياويح ( ليلى )حين تُحرم قيسَها

والشر يخسِف للدجى أقمارا

وغريمنا يرمي الضياء بعتمة

فنزيده من شمسنا مقدارا

وبذرت في أرض المحبة حنطتي

فلقيت في يوم الحصاد غبارا

والشوق نار والعدالة جمرة

والفضل صار خطيئة وشنارا

وأنا بعين حبيبتي متبتل

لا تستطيع بغيرنا إبصارا

فكتبت قرطاسي لبعض أحبتي

طُهرُ المنازل يصطفي الأخيارا

وقطعتُ أحبال التردد والرجا

سيف الحسين يقاتل الأشرارا

مدت لنا أيدي السماء جنودها

والكلُ يسأل ما الذي قد دارا

ومَن الذي يلهو ويلعب خِفةً

وطغى وأكثر في الفساد وجَارا؟

والغيم أمسك بالسماء غياثه

ضجَّ الضياء من الخطوب وثارا

عَودٌ إلى محبوبتي أم الدُنا

وحبيبتي أهدت لنا الازهارا

ألفيتها يزهو الربيع بحُسنها

زادت بنا تلك السنون وقارا

ورفعت راياتي بأرض جميلتي

ومضى بنا ركب العَلاء وسارا

وجعلتُ أعزف للمدائن ثورتي

واللحن يصنع للوفا أوتارا

أشدو وأُسمِعُ للجميع ملاحمي

فأنا ابن مصر تأزَّر الإكبارا

وأخو العدالة يحتفي ببسالتي

فأزيده فوق الفخار فخارا

وقصائدي طيرٌ تَسابق للنُهى

والحرف يسفك بعدنا الأحبارا

وحبيبتي مصريةٌ تاج الورى

والقلب هامَّ بعشقها مختارا

في الحُبِ أقصى ما أكون تطرفا

ومشاعري لا تقبل التكرارا

فلتكتبوا أني سفير حبيبتي

ما هنتُ يوماً أو قَبِلتُ صَغَارا

====

قاضي الشعراء /

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى