عندما عصى ابليس ربه لم يكن هناك شيطاناً ، فمن الذى وسوس له ؟ ولو كانت النفس الأماره بالسوء ، فلماذا توسوس للإنسان بالمعصيه وهى من ستُعذب فى النار ؟

بقلم الكاتب الصحفى : أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب ومتخصص فى التنمية البشرية وتطوير الذات
النفسُ هي ذلك الكائنُ الخفيُّ الذي يسكنُ أعماقَ الإنسان ، يَدفعُه تارةً نحوَ المرتفعاتِ الإيمانيةِ ، ويجرُّه تارةً أخرى إلى حضيضِ الشهواتِ والغوايةِ ، إنها ميدانُ المعركةِ الذي لا يهدأ بينَ نورِ الإيمانِ وظلامِ الهوى ، بينَ صوتِ الضميرِ وهمسِ الشيطانِ ، لقد خلقَ اللهُ النفسَ بتلكَ التركيبةِ المُعقدةِ ليكونَ الإنسانُ في اختبارٍ دائمٍ ، فلو كانتْ مُسَخَّرةً للخيرِ دونَ نزوعٍ إلى الشرِّ لَما كانَ هناكَ فضلٌ للصابرينَ ، ولو كانتْ ميَّالةً إلى الفسادِ دونَ مقاومةٍ لَما كانَ هناكَ عذرٌ للعاصينَ ، لكنَّ الحكمةَ الإلهيةَ أرادتْ أنْ تجعلَ الحياةَ دارَ امتحانٍ ، والنفسَ أداةَ ذلكَ الامتحانِ ؛ تُزيّنُ المعصيةَ في عينِ صاحبِها كي يقعَ في الفتنةِ ، ثمَّ تُحاسبهُ على اختيارِه يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ .
فالنفسُ ليستِ شرّيرةً بذاتِها ، لكنَّها مَجْبولةٌ على حبِّ الشهواتِ ، مُعرَّضةٌ لوساوسِ الشيطانِ الذي يُقسمُ بأن يُضلَّ الإنسانَ عن سواءِ السبيلِ ، تُغالطُ النفسُ صاحبَها بأنَّ الذنبَ صغيرٌ ، وأنَّ التوبةَ قريبةٌ ، وأنَّ العمرَ طويلٌ ، لكنَّها تعلمُ في أعماقِها أنَّ كلَّ خطيئةٍ هي شوكةٌ تُغرزُ في طريقِ الآخرةِ ، وكلَّ لذةٍ محرمةٍ هي سهمٌ يُمزقُ أجنحةَ الروحِ .
فحينَ يُصغي المرءُ لوسواسِها ، يظنُّ أنَّه يخدعُ اللهَ ، لكنَّه في الحقيقةِ يخدعُ نفسَهُ ، ويُحمّلها وِزرًا سيُثقلهُ يومَ تُحشرُ الخلائقُ حفاةً عراةً .
أيها القارئ لازم تعرف إنَّ العذابَ الذي ينتظرُ النفسَ في النارِ ليسَ انتقامًا من اللهِ ، بل هو عدلٌ يُنصفُ كلَّ مظلومٍ ، ويُجازي كلَّ مُسيءٍ ، فالنفسُ التي أصرَّتْ على المعصيةِ ، واستخفَّتْ بوعيدِ اللهِ ، ستجدُ نفسَها في موقفِ الخزيِ الأبديِّ ؛ تُذكّرُها النارُ بكلِّ مرةٍ فضَّلتْ فيها الهوى على طاعةِ الله ، وكلِّ مرةٍ باعتْ فيها رضا الخالقِ بلذةٍ عابرةٍ . حتى إنَّ الجسدَ الذي كانَ أداةَ المعصيةِ يشهدُ عليها يومَ القيامةِ ، فيقولُ : ” ربِّ إنَّها أغوتني ” ، فكيفَ باللهِ تُنكرُ النفسُ ما فعلتْ ؟!
فالتحدي الأكبرُ للإنسانِ هو أنْ يروضَ نفسَهُ ، لا أنْ يستسلمَ لرغباتِها ، فالنفسُ كالنارِ ، إنْ أطعْتَها أحرقتْكَ ، وإنْ أخضعْتَها أضاءتْ لكَ ، فكلُّ مقاومةٍ لها هي خطوةٌ نحوَ الفوزِ بالجنةِ ، وكلُّ تساهلٍ معها هو إنزلاقٌ نحوَ الهاويةِ .
صحيحٌ أنَّ المعصيةَ تُشعرُ المرءَ بلذةٍ آنيةٍ ، لكنَّها سرعانَ ما تتحولُ إلى ألمٍ وحسرةٍ ، بينما الطاعةُ قد تكونُ مُجهدةً في البدايةِ ، لكنَّها تُورثُ طمأنينةً لا تُوصفُ ، فالفرقُ بينَ المؤمنِ والمنافقِ أنَّ الأولَ يُجاهدُ نفسَهُ ليرتقي ، والثاني يُسلمُ قيادَهُ لهواها فيهوي .
أليسَ منَ العجيبِ أنَّ النفسَ التي كانتْ تُضحّي بالخلودِ في الجنةِ لأجلِ شهوةٍ عابرةٍ ، ستكونُ أولَ المُعذَّبينَ بنارٍ تأكلُ الجلودَ ؟
أليسَ منَ المُحزنِ أنَّها تُدركُ حجمَ الغبنِ بعدَ فواتِ الأوانِ ، فتصرخُ : { رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ } ، لكنَّ الصراخَ يضيعُ في عوالمِ الآخرةِ ؟!
فيا مَنْ تُسابقُ الساعاتِ في ملذاتِ الدنيا ، اعلَمْ أنَّ كلَّ نفَسٍ تتنفسُه هو رصيدٌ قد ينفدُ فجأةً ، وأنَّ كلَّ شهوةٍ تُسكتُها هي جمرةٌ تُطفئُها قبلَ أنْ تُحرقَ قلبَكَ ، فالنجاةُ ليستْ في هروبٍ منَ الفتنةِ ، بل في مواجهتِها بقوةِ إيمانٍ ، والانتصارُ ليسَ في عدمِ الوقوعِ في الخطيئةِ ، بل في القيامِ بعدَ كلِّ عثرةٍ .
فواللهِ ما خلقَ اللهُ النارَ إلا لِتُحرقَ نفوسًا اختارتِ الضلالَ ، وما خلقَ الجنةَ إلا لِتُنعّمَ نفوسًا آثرتِ الهدى ، فانظروا أيَّ نفوسٍ أنتمْ تُغذونَ ، فربَّ لحظةِ صبرٍ تُنقذُك منْ آلافِ السنينَ في الظلماتِ.
واعلموا أنَّ اللهَ لا يظلمُ نفسًا شيئًا ، لكنَّ النفوسَ هي التي تظلمُ نفسَها …
فمَنْ ذا الذي سيُنقذُ نفسَهُ قبلَ أنْ تُصبحَ في عدادِ الخاسرينَ ؟!
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه