مشاهير

كتب : دكتور وسام السبكي خفض الفائدة في مصر: من كبح التضخم إلى إطلاق النمو… قرار شجاع يغيّر مسار الاقتصاد

كتب : دكتور وسام السبكي
خفض الفائدة في مصر: من كبح التضخم إلى إطلاق النمو… قرار شجاع يغيّر مسار الاقتصاد
شهدت أمس الساحة الاقتصادية في مصر قرارًا جريئًا من البنك المركزي. هذا القرار يخفض أسعار الفائدة الأساسية بنسبة 1% دفعة واحدة. مما يعكس ثقة متزايدة في مسار التضخم وقدرة الاقتصاد على التحول من مرحلة كبح الأسعار إلى مرحلة تحفيز النمو والاستثمار.
لجنة السياسة النقدية قامت بخفض سعر العائد على الإيداع إلى 20%، والإقراض إلى 21%، وسعر العملية الرئيسية إلى 20.5%. كما قامت بتقليص سعر الخصم إلى 20.5% أيضًا. هذا يعني تحولًا واضحًا من سياسة نقدية صارمة استمرت قرابة العامين إلى بداية دورة تيسير نقدي محسوبة.
شجاعة القرار في سياق أرقام صعبة
قرار خفض الفائدة لم يأتِ من فراغ. مصر كانت قد خرجت من موجة تضخم عالية جداً، حيث تجاوز التضخم العام 30-35% في عام 2023. بعد ذلك، بدأ التضخم في التراجع ووصل إلى 12.3% في نوفمبر 2025. هذا هو أدنى مستوى للتضخم منذ ثلاث سنوات تقريبًا.
التراجع الواضح في التضخم جاء بعد فترة من تشديد السياسة النقدية. خلال هذه الفترة، قفز سعر الفائدة في عام 2024 بأكثر من 800 نقطة أساس، لتتجاوز 27%. بعد ذلك، بدأ سعر الفائدة في الهبوط. هذا التغير في التضخم والسعر الفائدة أعطى البنك المركزي مساحة للمناورة. الآن، يتخذ البنك المركزي خطوة جريئة في الوقت المناسب.
في الوقت الحالي، أسعار الفائدة الحقيقية في مصر ما زالت عند مستويات موجبة. التقديرات تشير إلى أن معدل التضخم مرتفع، حيث يصل إلى حوالي 8-9%. في هذه الحالة، خفض سعر الفائدة بمقدار 100 نقطة أساس سيبقى السياسة النقدية في حدود انكماشي إلى حد ما، مما يساهم في الحفاظ على استقرار الأسعار. وفي الوقت نفسه، سيظل هناك فرصة للنمو الاقتصادي، ولكن بطريقة جزئية فقط.
أثر مباشر على الاستثمارات والقطاع الخاص
انخفاض أسعار الفائدة الأساسية بنسبة واحد في المئة يؤثر بشكل مباشر على تكلفة الاقتراض للشركات، خاصة في الصناعة والزراعة والقطاع العقاري، حيث يعتمدون بشكل كبير على التمويل البنكي. هذا التغيير يمكن أن يكون له تأثير كبير، حيث تشير بعض الدراسات إلى أن كل تخفيض بنسبة واحد في المئة في أسعار الفائدة يمكن أن يزيد نمو الائتمان الممنوح للقطاع الخاص بنسبة تتراوح بين 8 إلى 10 في المئة سنوياً. هذا التوسع في الائتمان يمكن أن يؤدي إلى زيادة في الإنتاجية وفرص العمل، بالإضافة إلى تحسن في الصادرات الصناعية نتيجة لانخفاض تكاليف التمويل. بالإضافة إلى ذلك، يقلل تخفيض أسعار الفائدة من الفجوة بين عائد الاستثمار في الإنتاج وعائد الأدوات الادخارية، مما يمكن أن يدعم النمو الاقتصادي بشكل عام. ما يشجع المستثمرين المحليين على تحويل أموالهم من شهادات الادخار التي توفر عائدًا مرتفعًا إلى الاستثمارات في المشروعات الإنتاجية وسوق المال، حيث يمكن أن تصل التدفقات المالية المحتملة إلى البورصة خلال سنة إلى ما بين 30 و40 مليار جنيه نتيجة إعادة توجيه السيولة.
تخفيف عبء خدمة الدين وتقوية الموازنة
من حيث المالية العامة، فإن خفض الفائدة يعتبر قرارًا شجاعًا أيضًا، لأنه يؤدي إلى تقليل تكلفة خدمة الدين العام مباشرة. تشير تقديرات خبراء الاقتصاد إلى أن كل نقطة مئوية منخفضة في أسعار الفائدة تقلل عبء خدمة الدين بحوالي 70 مليار جنيه سنويًا. هذا يمثل تحسنًا كبيرًا يمكن أن يخفف الضغط على الموازنة العامة وتوفير موارد إضافية للاستثمار في القطاعات الهامة مثل البنية التحتية والتعليم والصحة. هذا التحسن المالي الإضافي يساعد الحكومة على تنفيذ الإصلاحات التي وافقت عليها مع المؤسسات الدولية، ويعزز ثقة المستثمرين في استدامة الدين العام المصري على المدى المتوسط.
دعم تعافي النمو وتحسين التوقعات
القرار يأتي في وقت يتوقع فيه الخبراء أن ينمو الاقتصاد في مصر بنسبة 4.6% في العام المالي 2025/2026، مع توقع استمرار انخفاض التضخم وأسعار الفائدة. من المتوقع أن تواصل البنوك الخفض التدريجي للفائدة، مما قد يؤدي إلى خفض سعر الإقراض الرئيسي من أكثر من 22% حاليًا إلى حوالي 13-11% بحلول عام 2028، وفقًا لاستطلاعات رأي الخبراء. هذا يعني أن الاقتصاد سيتحرك تدريجيًا من وضع يتميز بتكلفة تمويل عالية إلى وضع يمكنه تمويل الاستثمارات والنمو بمعدلات أكثر استدامة. بالإضافة إلى ذلك، تتسق هذه الخطوة مع الاتجاه العالمي لخفض أسعار الفائدة في الاقتصادات الكبرى. يقلل من أخطار خروج رؤوس الأموال الساخنة، ويمنح مصر مساحة أكبر لموازنة هدف الاستقرار في الأسعار مع هدف تشغيل الطاقات الإنتاجية وزيادة الصادرات.
رسالة ثقة وسياسة مدروسة
في النهاية، يعكس قرار البنك المركزي المصري بخفض الفائدة شجاعة مسؤولية، لا شجاعة مغامرة. هذا القرار يستند إلى بيانات تظهر تباطؤاً ملموساً في التضخم إلى ما يقارب 12%، بعد أن دفع الاقتصاد تكلفة عالية لدورة تشديد نقدي حادة. هذه الخطوة ترسل رسالة قوية للأسواق بأن السياسة النقدية أصبحت أكثر مرونة وتوازناً. السياسة النقدية قادرة على التحول من الدفاع عن استقرار الأسعار فقط إلى دعم النمو والاستثمار والتشغيل دون التفريط في الانضباط النقدي. إذا ما استمر التضخم في المسار الهابط، ومع تحسن تدفقات الاستثمار الأجنبي وزيادة قدرة القطاع الخاص على الاقتراض والإنتاج، فإن هذا سيكون له تأثير إيجابي على الاقتصاد. قرار اليوم قد يُقرأ بعد سنوات بوصفه نقطة تحوّل في مسار الاقتصاد المصري من حالة انكماش مكلفة إلى دورة توسع أكثر استدامة وعدالة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى