مشاهير

ولأنّ حبًّا انتهى بهذا الجمالِ … لا بدَّ أن يبدأَ من جديد ، ولو بعد ألفِ مساء …

بقلم الكاتب الصحفى : أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب ✍🏻

ها أنا أراقبُ شظاياكِ من وراء حجاب الزمن ، ألتقطُ أنفاسَكِ الضائعة في زوايا الأخبار العابرة ، أسمعُ همسَكِ بين طيّات الأحاديث المبتورة ، لو تعلمين كم أضحكتني المفارقةُ حين علمتُ أن ابتسامتكِ ما زالت تُشرق في عالمٍ ناءٍ عني ، وكأنّ الكونَ يُرسلُ لي برقيةً مكتوبةً بضوء النجوم : “إنها حيّةٌ.. فقط لم تعدْ حيّةً فيك”.

طبيبتي النفسية التي تقلبُ ذاكرتي ككتابٍ منهوكٍ قالت بعد عامٍ من الجلسات : ” لم تكنْ تلك حباً ، بل غريزةُ تشبثٍ بمن يُنقذك من السقوط “.
حاولتُ أن أشرحَ لها أن الحبَّ يُولدُ كالنبتةِ الشوكيةِ بين الرمال ، لا يسألُ عن توقيتِ الهطولِ ولا عن منطقِ الجغرافيا ، لكنها أصرّتْ على تشخيصي بجملةٍ جاهزة : ” ثلاثةُ أشهرٍ لا تصنعُ أساطيرَ “.

أتراكِ تضحكين الآن ؟ أعرفُ ذلك الضحكَ الذي يُشبهُ انكسارَ موجةٍ على صخورٍ صمّاء ، لو ترينني وأنا أتلقى نصائحَهم كصاحبِ مقهى يتلقّفُ فناجينَ فارغة ، أدوائي المهدئةُ تتكدّسُ في زاويةِ الدرجِ كشواهدَ على حربٍ خاسرة ، فما فائدةُ حبةٍ تُسكّنُ الجسدَ بينما الروحُ تُشرّحُ نفسَها بسكينِ الغياب ؟

صديقى التي يُمسكُ بيدي كطفلٍ يُعلّمني المشيَ مرةً أخرى يقولُ بتفاؤلٍ مُصطنع : ” ستتعافى .. الأمرُ مسألةُ وقت “، لكنه لا يرى أن ساعتي توقّفتْ عند اللحظةِ التي رحلتِ فيها ، وأن كلَّ ما بعدها مسرحيةٌ أؤدّيها بإتقان ، ضحكاتٌ مُعلّبة ، أحاديثٌ مُجمّدة ، عيونٌ تبحثُ عنكِ في كلِّ وجهٍ عابر.

حتى صديقي الذي اعتادَ مشاركتي تفاصيلَ الكونِ صارَ يتجنّبُ ذكرَكِ كمن يتلفّظُ باسمِ شبحٍ مُلعون ، ربما يعرفُ أن جرحًا كهذا يُشبهُ زجاجًا مُهشمًّا ، كلُّ لمسةٍ تُنزفُ الذاكرة . أمي تُلقي أسئلتَها بخيطٍ رفيعٍ كخياطةِ جرحٍ مفتوح : ” هل ما زلتِ..؟” ، فأحوّلُ عينيّ نحو النافذةِ حيثُ غيمةٌ وحيدةُ تتلوّى كقلبي المُعلّق . حتى إمامُ المسجدِ الذي مررتُ به صدفةً همسَ لي يومًا : ” الحبُّ الطاهرُ لا يموت “، فكاد قلبي يخرجُ من صدرِي ليعانقَهُ ، لقد عرفَ دونَ كلامٍ أنني لم أدنّسْ ذكراكِ حتى بفكرةٍ عابرة.

هنا حيثُ الشوارعُ الضيقةُ تُحيطُ بي كشهودِ عيانٍ على حكايتنا ، تُحاولُ أشجارُ الكينا أن تُغريني بضوئها الذهبي : ” ستجدُ غيرَها “، لكن ظلّكِ يرتمي على الأرصفةِ كندبةٍ لا تلتئم .
فاليومَ ، نظرَ سائقُ التاكسي إليّ عبرَ المرآةِ كعرّافٍ قرأَ خطوطَ كفّي : “في عينيكَ غيمةٌ لم تمطرْ بعد “، فانهمرتُ أحكي له عنكِ كمن يُفكّكُ خرزةً أخيرةً من مسبحةٍ مبعثرة ، فقالَ مبتسمًا بنبرةِ من خبرَ الرياح : ” النسيانُ سيأخذُها ذاتَ يوم “. لكنّه لم يعرفْ أنني أرفضُ أن أكونَ مقبرةً لأسرارِنا ، سأظلُّ أحتفظُ بها كبردى محفوظٍ تحتَ الرمال.

الكلُّ يرمي نصائحَه في بحيرةِ وجودي كحجارةٍ تُحدثُ دوائرَ متكررة ، كلُّهم يظنّونَ أن الوقتَ كفيلٌ بتحويلِكِ إلى مجرّدِ فقرةٍ في مذكّراتي. لكنّهم لا يعرفونَ أنني أرتدي ذكراكِ كجلدٍ ثانٍ ، أسمعُ صمتَكِ في أزيزِ القهوةِ التي ما زلتُ أشربُها في زاويتنا الخالدة ، أقرأُ غيابَكِ في سطورِ محمود درويش الذي يهمسُ لي : ” انتظرْها بصبرِ الجبال “. فأغمضُ عينيّ وأردّدُ كطفلٍ يؤمنُ بالمعجزات : “مُطيعٌ يا سيّدي”.

لأنّ في انتظاركِ وَطنٌ لا أستطيعُ الرحيلَ عنه ، ولأنّ حبًّا انتهى بهذا الجمالِ لا بدَّ أن يبدأَ من جديد … ولو بعد ألفِ مساء …

سنلتقى إن كان فى العمر بقيه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى