د. هيثم زينهم،المفكر العربي وخبير الذكاء الاصطناعي:يا حُرّاس الأطلال… لن تسقط قلاع المستقبل
يا حُرّاس الأطلال… لن تسقط قلاع المستقبل للمفكر العربي وخبير الذكاء الاصطناعي د. هيثم زينهم

يا حُرّاس الأطلال… لن تسقط قلاع المستقبل
المفكر العربي وخبير الذكاء الاصطناعي د. هيثم زينهم
ما زال بيننا اليوم مَنْ يتشبّث بأطلال الماضي كأنها حصون راسخة، لا يمكن المساس بها، ويظنّ أنّ الأجيال إن فتحت نوافذها لرياح العصر ضاع منها المجد، وانطفأ منها النور. إنهم حُرّاس الأطلال، الذين اعتقدوا أنّ حماية الهوية تعني تجميد الزمان، وأنّ الوفاء للتاريخ لا يكون إلا بمحاكمة كل جديد بميزان قديم.
إنّ الحقيقة الواضحة تكمن في أنّ المستقبل لا يستأذن أحدًا كي يولد، ولا ينتظر إذنًا كي يشبّ ويقوى. لقد انطلق قطار الذكاء الاصطناعي، ومن أبى أن يركبه بقي واقفًا عند محطة مهجورة، يسمع صفيره ولا يملك اللحاق به.
كان التعليم في عصور مضت يقوم على الحفظ والتكرار، وعلى تكديس القوانين في دفاتر صامتة. أمّا اليوم، فقد تبدّل المشهد تبدّلًا عميقًا؛ فالذكاء الاصطناعي يفتح للطلاب مختبرًا عقليًا لا تحدّه جدران، ويجعل الرياضيات تجربة حيّة، والفيزياء واقعًا محسوسًا، فيرى الطالبُ بعينيه ما كان يحفظه بلسانه. وهكذا ينتقل العلم من أسر القوالب الجامدة إلى فضاء التفاعل والفهم.
إنّ التمسك بطرائق الأمس ليس وفاءً للعلم، بل خيانة له؛ لأنّ العلم في جوهره حركة لا سكون، ومسيرة لا انقطاع. ومن أراد أن يحاكم المستقبل بأدوات الماضي فقد حكم على نفسه بالعزلة، وعلى الأجيال من بعده بالتيه.
ليس الأمر مقصورًا على العلوم الطبيعية وحدها؛ فإنّ اللغات والعلوم الإنسانية أشدّ الميادين حاجةً إلى نهضة جديدة. فالكثير من المناهج تُدرّس على أنها محفوظات تُلقَّن، لا أدوات تبني العقول، ويُقدَّم التاريخ على أنه سرد جافّ، لا درس حيّ، يوقظ البصيرة، وتُعرض النصوص الأدبية كصفحات منسية، لا كأصوات حيّة. في الوقت نفسه فإنَّ الذكاء الاصطناعي قادر على أن يحدث تحولًا عميقًا في هذا الميدان:
- في اللغة، يتيح للطالب أن يحاور النصوص، يفكك تراكيبها، ويتذوّق بلاغتها، فيعيشها حوارًا لا تلقينًا.
- في التاريخ والفكر، يحوّل الوقائع إلى صور نابضة، فيرى الطالب عللها ومآلاتها، لا أرقامًا متفرقة.
- في الفلسفة، يفتح أمام العقول ساحات للنقاش، فيدرّبها على النقد والتحليل، ويعوّدها على موازنة الآراء وفهم الخطابات.
وإذا كانت العلوم الإنسانية بحاجة إلى نهوض، فإنّ العلوم الشرعية أشد حاجة إلى تجديد رؤيتها وبيانها. فما زال بعض الخطاب الديني أسير التكرار، يردد ألفاظًا قديمة من دون وعي بسياقها، كأن النصوص جاءت لتُحبس في قوالب، لا لتضيء العقول وتوجّه الحياة.
إنّ الذكاء الاصطناعي، إذا أُحسن توظيفه، يمكن أن يكون معينًا في هذا المسعى:
- يعرض النصوص في سياقها الكامل، ويحررها من اجتزاء ضيق.
- يتيح المقارنة بين المدارس والاتجاهات؛ فيظهر مقاصد الشريعة وأبعادها، لا صورها الظاهرة فقط.
- يكشف الخطابات المشوهة، ويضعها بجانب الأصول الصحيحة، فيتعلّم الطالب التمييز بين الصحيح والمزيف، وبين الاعتدال والتطرف.
وهكذا يصبح التجديد في حقيقته إحياءً للعقل الديني الواعي وتحصينًا للشباب من الانجراف وراء خطاب الغلو أو فكر العنف.
إنّ أخطر ما يهدد شبابنا اليوم ليس قلة المعلومات، بل فيضانها بلا معيار. والوعي النقدي هو الحصن الذي يحميهم من الانسياق وراء الشائعات والدعايات. فإذا طُوّرت العلوم الإنسانية بأدوات الذكاء الاصطناعي، وجُدّد الخطاب الديني بروحه المقاصدية، صُنّا بذلك الأمن الفكري، وجعلنا العقل نفسه سورًا منيعًا أمام التضليل والانحراف.
الأمن الفكري لا تحرسه الأسوار الحديدية، بل تحرسه العقول المستيقظة، ولا يحفظه المنع وحده، بل يحفظه وعي يعرف أن يفرّق بين الفكرة وحقيقتها، بين النص وروحه، بين التراث الحي والجمود المميت.
فلتكن رسالتنا واضحة: المستقبل لا ينتظر المترددين، والعالم لا يرحم المتقاعسين. إن لم نصنع لأبنائنا عقولًا يقظة وأفكارًا حرة، صنع لهم غيرنا عقولًا أسيرة وأوهامًا زائفة. فهلمّوا إلى العمل… لنُشعلْ في أجيالنا قبسَ الفهم، ونفتح أمامهم آفاق الإبداع، ونبني معًا غدًا يليق بأحلامنا، لا أطلالًا نرثيها.