فن إدارة المسافات : دروس في حماية الذات من عواصف الآخرين
كاتب صحفى متخصص في شؤون التنمية الذاتية والعلاقات الإنسانيه

بقلم : أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب
الحياة أشبه برقصة نار ؛ إن اقتربت أكثر من اللازم قد تُحرق ، وإن ابتعدت تفقد دفئها . هكذا هي العلاقات الإنسانية ، تتطلب توازنًا دقيقًا بين التقارب والتباعد ، خصوصًا حين ندرك أن كل إنسان يحمل في داخله “عورات نفسية” قد تظهر فجأة : مزاج متقلب ، غضب عارم ، أو شطحات غير متوقعة . هنا يصبح الحفاظ على مسافة آمنة ليس خيارًا ، بل ضرورة لحماية سلامة روحك من الأعاصير التي قد يطلقها الآخرون دون قصد.
لماذا نُصاب بحروق القرب ؟
لا يخلو إنسان من نقاط ضعف خفية ؛ فالبعض يعيش في صراع مع ذاته ، والآخر يحمل جراحًا لم تندمل ، وثالث يخفي خلف ابتسامته بركانًا من المشاعر المضطربة ، هذه “العورات” ليست عيبًا ، بل جزءًا من طبيعتنا البشرية الهشة ، لكن المشكلة تبدأ عندما نسمح لأنفسنا بالاقتراب أكثر من اللازم ، فنصبح مرآة تعكس ألم الآخرين ، أو سلة مهملات تستقبل شظاياهم.
تخيل أنك تجلس بجوار صديق يمر بيوم سيء ، غضبه يتصاعد كلهب ، وحديثه السلبي كالدخان الذي يخنق . إن إلتصاقك به دون مسافة سيجعلك تختنق بسمومه ، بل قد تتحول إلى ضحية لـ “عدوى عاطفية” لا تُرى بالعين ، لكنها تُشعرك بالإرهاق والاضطراب.
المسافة العاطفية : ليست جدارًا ، بل درع واقٍ ..
الحديث عن “المسافة” لا يعني أن نعيش كجزر منعزلة ، أو أن نرتدي قناع البرود ، بل هو فن اختيار المدى الذي يسمح لك بالتفاعل مع الآخر دون أن تفقد توازنك ، مثلما تضع الشمس مسافة كافية لتدفئتنا دون أن تُهلكنا ، نحتاج أن نتعلم كيف نُدير حدودنا بحكمة.
هذه المساحة ليست إهانة للآخر ، بل احترام لذاتك . إنها ذلك الحاجز اللامرئي الذي يمنع طاقة الآخر السلبية من اختراق عالمك الداخلي ، ويحميك من تحولك إلى “مستودع” لأخطاء من حولك.
كيف نرقص برشاقة بين الاقتراب والابتعاد ؟
إدارة المسافات فنٌ يتطلب ذكاءً عاطفيًا ، وإليك مبادئه الأساسية :-
١- اقترب بذكاء
اختر اللحظات التي تستحق الاقتراب ، كمن يغوص ليستخرج اللؤلؤ من الأعماق ، كن حاضرًا في أوقات الألم أو الفرح ، لكن احتفظ بحقك في الانسحاب عندما تشعر بأن الحديث يتحول إلى تفريغ سلبي مستمر .
تذكر : التعاطف لا يعني أن تُذوب نفسك في الآخر.
٢- انسحب بحكمة
لا تنتظر حتى تُصاب بالتسمم العاطفي . إذا لاحظت أن وجود شخص ما يُشعرك بالثقل المستمر ، أو أن حواراته تدور في حلقة مفرغة من السلبية ، اعلم أن الوقت قد حان لتعديل المسافة . ليكن انسحابك تدريجيًا وغير مؤذٍ ، كسحابة تبتعد بهدوء عن الشمس.
٣- استخدم ” كاشف الطاقة ”
طور حاسة داخلية تنبهك عندما يتخطى أحد حدودك النفسية . مثلًا : إذا وجدت نفسك تتجنب الرد على مكالمات شخص ما لأن حديثه يستهويك ، أو تشعر بضيق في الصدر بعد لقائه ، فهذه إشارات بأن المسافة تحتاج إلى إعادة ضبط.
٤- أنت لست مُلزَمًا بأن تكون مأوى للعواصف …
في النهاية ، تذكّر أن الحكمة ليست في الهروب من الناس ، بل في التعامل معهم بوعي . كما يختار البحّار الماهر الإبحار بعيدًا عن الأعاصير ، أنت أيضًا تحتاج أن تبني مراكبك العاطفية بمهارة .
فلا تسمح للقرب العشوائي أن يسرق منك بهاء روحك ، ولا تجعل شفقتك على الآخرين ذريعة لتحويل حياتك إلى ساحة معركة . احتفظ بمساحتك المقدسة ، ففيها تُخلق طاقتك الإيجابية ، ومنها تنبع قوتك لتضيء العالم دون أن تحترق .
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه