مشاهير

أيمن شاكر يكتب : واحة الليل : حيث يرقص الماضي بأردية التمنى

بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب ✍🏻

عندما تسقط حُجُب النهار وتنسدل ستائر الظلام ، يبدأ مشهدٌ آخر في التكوُّن ، ليس مشهد ظلام ، بل مشهد نور آخر ، نور يتسلل من شقوق الذاكرة ، من زوايا النفس التي تتنفس بحرية حين ينام العالم . الليل ليس غيابًا للضوء ، بل حضورٌ لعالم موازٍ ، عالم الذكريات التي تخرج من سجون النسيان المؤقت ، لتجلس بجوارنا على أريكة الوحدة ، أو لتهمس في أذننا ونحن نحدق في الفراغ . وإن سألوك يومًا عن سرّ هذا السكون النابض بالحياة ، عن تلك الهمسات التي تعلو حين يخفت الضجيج ، فقل لهم ببساطة :
هو حضور الماضي في أحضان التمني .

💧تتحول غرفة النوم أو الشرفة المعتمة إلى مسرح كبير ، على خشبته يظهرون جميعًا : وجوهٌ غابت تحت تراب الزمن أو ابتعدت بفعل تقلبات الحياة ، أصواتٌ اختلط صداها بضوضاء الأيام ، لحظاتٌ من الفرح الخالص كانت تبدو بسيطة آنذاك فإذا بها تتحول إلى جوهرة ثمينة في متحف الروح ، وأخرى من الألم الحاد الذي ترك ندبة لا تبرى ، لكن الليل يمنحها هالة من الغموض والجمال المُرّ. الذكريات في الليل ليست سردًا تاريخيًا جافًا ، إنها استحضارٌ عاطفي مشبع بالحنين . نسترجع الماضي لا كما كان ، بل كما نتمنى أن نراه الآن ، أو كما نخشى أن نفقده إلى الأبد . نزيّنه بلمسات التمني ، أو نكثّف ظلاله بألوان الندم . إنه حوار صامت بين ما كنا عليه ، وما أصبحنا عليه ، وما كنا نأمل أن نكونه.

🩸هل هي ذكريات الفرح التي تزورنا ؟ أم ذكريات الألم هي الأكثر إلحاحًا ؟ كلا الأمرين صحيح. فرحة الطفولة البريئة ، أول نجاح ، لقاء حبيب ، ضحكة صدق مع صديق … كلها تطل برؤوسها كنجوم تتلألأ في سماء الليلة المظلمة ، تمنحنا دفئًا مؤقتًا وتذكيرًا بأن للحياة حلاوة لا يمكن للزمن أن يمحوها تمامًا ، لكن الألم أيضًا له مكانه. خسارة عزيز ، فراق موجع ، فرصة ضائعة ، كلمة جارحة نطقنا بها أو سمعناها. هذه الذكريات تأتي كضيف ثقيل ، تجلس في صمت ، تطل علينا بعيون تتساءل : ” ألم يكن بإمكانك فعل شيء آخر ؟ ” أو ” هل نسيتني حقًا ؟ “. الليل يذكّرنا بأن الجروح ، حتى تلك التي نعتقد أنها التأمت ، تحتفظ بقدرة خفية على النزف في اللحظات الأكثر هدوءًا. التمني هنا يلعب دور الطبيب المشعوذ : “لو أنني تصرفت بشكل مختلف .. لو أن الفرصة عادت .. لو أن الزمن يعود إلى الوراء …” ، إنها حلقة مفرغة من المراجعة العاطفية التي تزيد الوجع أحيانًا، وتقدم وهم العزاء أحيانًا أخرى.

💧والعزلة .. تلك الرفيقة الوفية لسهرات الذكريات. في عزلة الليل ، تخلع الذكريات أقنعتها. لا رقيب إلا ضميرنا ، ولا مشتتات إلا أنفاسنا . هنا ، في هذا الصمت المطبق ، يصبح الحوار مع الذات أكثر عمقًا وصراحة . نستطيع أن نواجه شبحًا من الماضي دون خجل ، أن نعترف بخطأ قديم دون تبرير ، أن نبكي على فقيد دون خوف من نظرة شفقة . العزلة الليلية هي المختبر الحقيقي لمشاعرنا ، حيث تذوب التصنعات الاجتماعية ، وتظهر الروح عارية أمام مرآة الذاكرة . التمني في هذه العزلة يصبح أكثر قوة وأشد إلحاحًا ، كأننا نحاول ملء فراغ الحاضر بأوهام الماضي أو أحلام المستقبل المستحيلة.

🩸وللحلم في الليل علاقة وثيقة بالذاكرة والتمني . أليس الحلم هو ابن شرعي للذكرى وزوج التمني ؟ تتشابك خيوط ما عشناه مع خيوط ما نتمناه في نسيج غريب ، ينتج مشاهد قد تكون عبثية لكنها تحمل في طياتها رموزًا عميقة تعكس هواجسنا وأمانينا المخبأة . الذكرى تمد الحلم بالمادة الخام ، والتمني يمنحه الأجنحة ليحلق في فضاءات لا حدود لها . في تلك الفسحة بين اليقظة والنوم ، حيث تسيطر الذكريات ، يسهل على العقل أن ينزلق إلى مملكة الأحلام ، حاملاً معه شظايا الماضي وأمنيات المستقبل ليخلق منها عالمًا سرياليًا خاصًا به.

💧الليل ، إذن ، ليس مجرد وقت للراحة الجسدية. إنه رحلة روحية إجبارية نغامر بها كلما أطفأنا الأنوار ، رحلة إلى دهاليز النفس، حيث يرقد الماضي ، ليس ميتًا ، بل نائمًا ينتظر لحظة الصحوة . حضور الماضي في أحضان التمني هذا ليس ضعفًا أو هروبًا من الواقع ، بل هو شهادة على ثراء التجربة الإنسانية ، على قدرة القلب على الحفظ ، وعلى حاجتنا الدائمة لنسج خيوط تربط ما مضى بما هو آتٍ ، حتى لو كان النسيج وهميًا. إنها عملية مراجعة وتطهير وتأمل ضرورية ، قد تكون مؤلمة أحيانًا ، لكنها تبقينا على اتصال مع جوهرنا ، مع قصتنا التي لا تكتمل إلا بكل فصل من فصولها، المشرقة منها والمظلمة.

🩸فإذا ما سألوك يوماً عن سرّ السهاد ، عن دمعٍ انساب في صمت ، عن ابتسامة ارتسمت فجأة في الظلام ، أو عن نظرة حزن تعلو الوجه مع إشراقة الفجر بعد ليل طويل من المحادثات السرية مع الأشباح … لا تتردد . انظر في عينيّ السائل ، وقل له بصوت هادئ يحمل كل ثقل التجربة وصدق المشاعر :
هو حضور الماضي في أحضان التمني … تلك الرقصة الأبدية بين ما فقدناه إلى الأبد ، وما لن نكف أبدًا عن التوق إليه . فهى في النهاية ، رغم لوعة الفراق ومرارة الندم ، الدليل الوحيد على أننا عشنا بحق ، أحببنا بعمق ، وجُرحنا بشرف .. وأن هذه الندوب التي تلمع تحت ضوء القمر ، هي شهادات ميلادنا المتكررة في مملكة المشاعر ، وبرهان صامت على أن القلب ، مهما أوهنه الزمن ، يرفض أن يصبح أثرًا بعد عين .

سنلتقى إن كان فى العمر بقيه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى